للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُخْرَى. تَعْرِضُ لِصَادِقِ الْإِرَادَةِ: سَبَبٌ يَعْرِضُ لَهُ يَنْقُضُ عَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ. وَوَحْشَةٌ تَعْرِضُ لَهُ فِي طَرِيقِ طَلَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ تَفَرُّدِهِ. وَفِتْنَةٌ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، تَقْصِدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ.

فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْآفَاتُ؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ إِذَا قَوِيَتْ، وَجَدَّ بِهِ الْمَسِيرُ لَمْ يَنْقُضْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخَلُّفِ.

وَالنَّقْضُ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ إِرَادَتِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ جِهَةِ سَفَرِهِ.

وَلَا يُوحِشُ أُنْسَهُ بِاللَّهِ فِي طَرِيقِهِ عَارِضٌ مِنَ الْعَوَارِضِ الشَّوَاغِلِ لِلْقَلْبِ، وَالْجَوَاذِبِ لَهُ عَمَّنْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ.

وَالْعَارِضُ هُوَ الْمُخَالِفُ. كَالشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَرِضُكَ فِي طَرِيقِكَ. فَيَجِيءُ فِي عَرْضِهَا. وَمِنْ أَقْوَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ عَارِضُ وَحْشَةِ التَّفَرُّدِ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّادِقِينَ: انْفِرَادُكَ فِي طَرِيقِ طَلَبِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الطَّلَبِ. وَقَالَ آخَرُ: لَا تَسْتَوْحِشْ فِي طَرِيقِكَ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ. وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ.

وَأَمَّا الْفِتْنَةُ الَّتِي تَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَهِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ، تَمْنَعُهَا مِنْ مُطَالَعَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ وَصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَارِضُ الْفِتْنَةِ.

وَهَذِهِ الْعَزَائِمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ أَشْرَقَ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَتَجَلَّتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَكَافَحَ قَلْبَهُ حَقِيقَةُ الْيَقِينِ بِهَا.

وَقَدْ قِيلَ: مَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ عَيْنِ الْعِلْمِ ثَبَتَ. وَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ جَرَيَانِهِ أَخَذَتْهُ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ. وَمَالَتْ بِهِ الْعِبَارَاتُ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ.

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَتَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ.

اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ وَتَمَكَّنَ فِيهَا ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ. هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَأَهَّلَ لِلْفَنَاءِ فِي عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. وَصَارَ قَلْبُهُ مُطَّرِحًا لِأَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>