وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّ رِضَاهُ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ - وَلَوْ كَانَ عَذَابَهُ - لَمْ يَدَعْ فِيهِ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعًا وَلَا لِلْخَوْفِ. بَلْ يَقُولُ: أَنَا أُحِبُّ مَا تُرِيدُهُ بِي، وَلَوْ أَنَّهُ عَذَابِي. وَقَدْ كَشَفَ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ:
وَتَعْذِيبِي مَعَ الْهِجْرَانِ عِنْدِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طِيبِ الْوِصَالِ
لِأَنِّي فِي الْوِصَالِ عَبِيدُ حَظِّي وَفِي الْهِجْرَانِ عَبْدٌ لِلْمَوَالِي
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالْهِجْرَانِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طِيبِ الْوِصَالِ، لِكَوْنِ الْوِصَالِ فِيهِ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ. وَأَمَّا التَّعْذِيبُ فَلَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ مَقْصُودٌ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ تَبْرِيدُهُ لِحَرَارَةِ الْخَوْفِ. حَتَّى لَا يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْإِيَاسِ.
وَهَذَا وَجْهُ كَلَامِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ.
فَيُقَالُ: هَذَا وَنَحْوَهُ مِنَ الشَّطَحَاتِ الَّتِي تُرْجَى مَغْفِرَتُهَا بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ، وَيَسْتَغْرِقُهَا كَمَالُ الصِّدْقِ، وَصِحَّةُ الْمُعَامَلَةِ، وَقُوَّةُ الْإِخْلَاصِ، وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، وَلَمْ تُضْمَنُ الْعِصْمَةُ لِبَشَرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذِهِ الشَّطَحَاتُ أَوْجَبَتْ فِتْنَةٌ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ. إِحْدَاهُمَا حُجِبَتْ بِهَا عَنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَلُطْفِ نُفُوسِهِمْ، وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِمْ، فَأَهْدَرُوهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الشَّطَحَاتِ، وَأَنْكَرُوهَا غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِمْ مُطْلَقًا، وَهَذَا عُدْوَانٌ وَإِسْرَافٌ. فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ تُرِكَ جُمْلَةً، وَأُهْدِرَتْ مَحَاسِنُهُ، لَفَسَدَتِ الْعُلُومُ وَالصِّنَاعَاتُ، وَالْحُكْمُ، وَتَعَطَّلَتْ مَعَالِمُهَا.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: حُجِبُوا بِمَا رَأَوْهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْقَوْمِ، وَصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ، وَصِحَّةِ عَزَائِمِهِمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَاتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ عُيُوبِ شَطَحَاتِهِمْ، وَنُقْصَانِهَا. فَسَحَبُوا عَلَيْهَا ذَيْلَ الْمَحَاسِنِ. وَأَجْرَوْا عَلَيْهَا حُكْمَ الْقَبُولِ وَالِانْتِصَارِ لَهَا. وَاسْتَظْهَرُوا بِهَا فِي سُلُوكِهِمْ.
وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُعْتَدُونَ مُفْرِطُونَ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: - وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ - الَّذِينَ أَعْطَوْا كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، وَأَنْزَلُوا كُلَّ ذِي مَنْزِلَةٍ مَنْزِلَتَهُ، فَلَمْ يَحْكُمُوا لِلصَّحِيحِ بِحُكْمِ السَّقِيمِ الْمَعْلُولِ، وَلَا لِلْمَعْلُولِ السَّقِيمِ بِحُكْمِ الصَّحِيحِ. بَلْ قَبِلُوا مَا يُقْبَلُ. وَرَدُّوا مَا يُرَدُّ.
وَهَذِهِ الشَّحَطَاتُ وَنَحْوُهَا هِيَ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا سَادَاتُ الْقَوْمِ، وَذَمُّوا عَاقِبَتَهَا. وَتَبْرَءُوا