للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُؤَثِّرُ فِي الْمَحِلِّ بِمُجَرَّدِ مُقَابَلَتِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُ، فَمِنْهَا مَا يَطْمِسُ الْبَصَرَ، وَيُسْقِطُ الْحَبَلَ.

وَمِنْ هَذَا نَظَرُ الْعَائِنِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْمَعِينِ حَدَثَتْ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةٌ سُمِّيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْمَعِينِ بِحَسَبِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ، وَكَوْنِهِ أَعْزَلَ مِنَ السِّلَاحِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ تِلْكَ النَّفْسِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَعِينِ إِذَا وُصِفَ لَهُ، فَتَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ وَتُقَابِلُهُ عَلَى الْبُعْدِ فَيَتَأَثَّرُ بِهِ، وَمُنْكِرُ هَذَا لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا بِالصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، فَإِذَا قَابَلَتِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْعَلَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي فِيهَا غَضَبٌ وَحَمِيَّةٌ لِلْحَقِّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ السُّمِّيَّةَ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَقَائِقِ الْفَاتِحَةِ وَأَسْرَارِهَا وَمَعَانِيهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي مَا ذُكِرَ عَلَى شَرٍّ إِلَّا أَزَالَهُ وَمَحَقَهُ، وَلَا عَلَى خَيْرٍ إِلَّا نَمَّاهُ وَزَادَهُ، دَفَعَتْ هَذِهِ النَّفْسُ بِمَا تَكَيَّفَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرَ تِلْكَ النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَحَصَلَ الْبُرْءُ، فَإِنَّ مَبْنَى الشِّفَاءِ وَالْبُرْءِ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَحِفْظِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، فَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ، وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ، أَسْبَابٌ رَبَطَهَا بِمُسَبِّبَاتِهَا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ خَلْقًا وَأَمْرًا، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِقُوَّةٍ مِنَ النَّفْسِ الْفَاعِلَةِ، وَقَبُولٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْمُنْفَعِلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَنْفَعِلْ نَفْسُ الْمَلْدُوغِ لِقَبُولِ الرُّقْيَةِ، وَلَمْ تَقْوَ نَفْسُ الرَّاقِي عَلَى التَّأْثِيرِ، لَمْ يَحْصُلِ الْبُرْءُ.

فَهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: مُوَافَقَةُ الدَّوَاءِ لِلدَّاءِ، وَبَذْلُ الطَّبِيبِ لَهُ، وَقَبُولُ طَبِيعَةِ الْعَلِيلِ، فَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَ الشِّفَاءُ وَلَا بُدَّ بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَمَنْ عَرَفَ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي تَبَيَّنَ لَهُ أَسْرَارُ الرُّقَى، وَمَيَّزَ بَيْنَ النَّافِعِ مِنْهَا وَغَيْرِهِ، وَرَقَى الدَّاءَ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الرُّقَى، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الرُّقْيَةَ بِرَاقِيهَا وَقَبُولِ الْمَحَلِّ، كَمَا أَنَّ السَّيْفَ بِضَارِبِهِ مَعَ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلْقَطْعِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُطْلِعَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَهَا لِمَنْ دَقَّ نَظَرُهُ، وَحَسُنَ تَأَمُّلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ التَّجَارِبِ بِذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَفِي غَيْرِي أُمُورًا عَجِيبَةً، وَلَا سِيَّمَا مُدَّةَ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لِي آلَامٌ مُزْعِجَةٌ، بِحَيْثُ تَكَادُ تَقْطَعُ الْحَرَكَةَ مِنِّي، وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ، فَأُبَادِرُ إِلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَمْسَحُ بِهَا عَلَى مَحَلِّ الْأَلَمِ فَكَأَنَّهُ حَصَاةٌ تَسْقُطُ، جَرَّبْتُ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكُنْتُ آخُذُ قَدَحًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةَ مِرَارًا، فَأَشْرَبُهُ فَأَجِدُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْقُوَّةِ مَا لَمْ أَعْهَدْ مِثْلَهُ فِي الدَّوَاءِ، وَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>