وَقَوْلُهُ: بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ فَهُوَ امْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
بِحَيْثُ يُذْهِلُهُ ذَلِكَ عَنْ تَعْظِيمِ غَيْرِهِ، وَعَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. فَلَا يَنْسَى هَذَا التَّعْظِيمَ عِنْدَ حُضُورِ قَلْبِهِ مَعَ اللَّهِ. بَلْ يَسْتَصْحِبُهُ دَائِمًا. فَإِنَّ الْحُضُورَ مَعَ اللَّهِ يُوجِبُ أُنْسًا وَمَحَبَّةً، إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُمَا تَعْظِيمٌ، أَوْرَثَاهُ خُرُوجًا عَنْ حُدُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَرُعُونَةً. فَكُلُّ حُبٍّ لَا يُقَارِنُهُ تَعْظِيمُ الْمَحْبُوبِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلْبُعْدِ عَنْهُ، وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنَيْهِ.
فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ خَمْسَةَ أُمُورٍ: سَيْرٌ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِدَامَةُ هَذَا السَّيْرِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ مَعَهُ، وَتَعْظِيمُهُ، وَالذُّهُولُ بِعَظَمَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ، فَيُرِيدُ دُنُوًّا وَقُرْبًا حَامِلًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ. وَهَذَا الدُّنُوُّ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ الَّذِي يُذْهِلُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ قُرْبًا مِنَ الْحَقِّ ازْدَادَ لَهُ تَعْظِيمًا، وَذُهُولًا عَنْ سِوَاهُ، وَبُعْدًا عَنِ الْخَلْقِ.
وَأَمَّا السُّرُورُ الْبَاعِثُ فَهُوَ الْفَرْحَةُ وَالتَّعْظِيمُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي يَجِدُهَا فِي تِلْكَ الْمُدَانَاةِ، فَإِنَّ سُرُورَ الْقَلْبِ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهِ. لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ. وَهُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا السُّرُورَ يَبْعَثُهُ عَلَى دَوَامِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي طَلَبِهِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَذَا السُّرُورَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ. فَإِنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً، مَنْ لَمْ يَذُقْهَا فَلْيَرْجِعْ، وَلْيَقْتَبِسْ نُورًا يَجِدُ بِهِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَوَجَدَ حَلَاوَتَهُ. فَذَكَرَ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ، وَعَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» . وَقَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجْدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute