فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَبَيْنَ الْكَيْفِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَافٍ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ.
فَمَنْ سَأَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: ٤٦] كَيْفَ يَسْمَعُ وَيَرَى؟ أُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ بِعَيْنِهِ. فَقِيلَ لَهُ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مَعْلُومٌ. وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالنُّزُولِ، وَالْغَضَبِ، وَالرِّضَا، وَالرَّحْمَةِ، وَالضَّحِكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَفْهُومَةٌ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ؛ إِذْ تَعَقُّلُ الْكَيْفِيَّةِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكُنْهِهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ لَهُمْ كَيْفِيَّةُ الصِّفَاتِ؟
وَالْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. بَلْ تُثْبَتُ لَهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَتُنْفَى عَنْهُ مُشَابَهَةُ الْمَخْلُوقَاتِ. فَيَكُونُ إِثْبَاتُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّشْبِيهِ. وَنَفْيُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعْطِيلِ. فَمَنْ نَفَى حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ مُمَثِّلٌ. وَمَنْ قَالَ: اسْتِوَاءٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْمُنَزِّهُ.
وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالرِّضَا، وَالْغَضَبِ، وَالنُّزُولِ وَالضَّحِكِ، وَسَائِرِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ.
وَالْمُنْحَرِفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا؛ أَيْ لَا يَتَكَلَّفُ التَّعَسُّفَ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ كَيْفِيَّاتِهَا. وَالتَّعَسُّفُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: رَكِبَ فُلَانٌ التَّعَاسِيفَ فِي سَيْرِهِ. إِذَا كَانَ يَسِيرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، جَائِرًا عَنِ الطَّرِيقِ.
وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. أَرَادَ بِالتَّأْوِيلِ هَاهُنَا التَّأْوِيلَ الِاصْطِلَاحِيَّ. وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَعَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute