للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا كَوْنُهُ أَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ السُّبُلِ عِنْدَهُمْ وَأَفْضَلِهَا، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَحَضُّهُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَكِّلُ وَتَوَكُّلُهُ أَعْظَمُ تَوَكُّلٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: ٧٩] وَفِي ذِكْرِ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ، مَعَ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ بِمَجْمُوعِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، وَاعْتِقَادِهِ وَنِيَّتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَاثِقًا بِهِ. فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ. وَقَالَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: ١٢] . فَالْعَبْدُ آفَتُهُ إِمَّا مِنْ عَدَمِ الْهِدَايَةِ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ. فَإِذَا جَمَعَ التَّوَكُّلَ إِلَى الْهِدَايَةِ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ.

نَعَمْ، التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَعْلُومِ الرِّزْقِ الْمَضْمُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ التَّوَكُّلِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ. أَمَّا التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِيهِ وَفِي الْخَلْقِ، فَهَذَا تَوَكُّلُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ؟

قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا.

جَوَابُهُ: أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَسْنَدَ إِلَى عِبَادِهِ كَسْبًا وَفِعْلًا وَإِقْدَارًا، وَاخْتِيَارًا، وَأَمْرًا وَنَهْيًا، اسْتَعْبَدَهُمْ بِهِ، وَامْتَحَنَ بِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَمَنْ يُؤْثِرُهُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَرَ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ فِيمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. وَكَمَا يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَكَمَا يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَكَمَا يُحِبُّ التَّوَّابِينَ.

وَأَخْبَرَ أَنَّ كِفَايَتَهُ لَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَحَسْبُهُ. وَجَعَلَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ جَزَاءً مَعْلُومًا.

وَجَعَلَ نَفْسَهُ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ وَكِفَايَتَهُ. فَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: ٥] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: ٤]

<<  <  ج: ص:  >  >>