أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ. وَأَوْحَشُهَا فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ. وَأَنْكَرُهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ
وَإِنَّمَا كَانَ صَعْبًا عَلَى الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ مُبْتَدِئٌ فِي الطَّرِيقِ. وَمَا لَهُ دُرْبَةٌ فِي السُّلُوكِ. وَلَا تَهْذِيبِ الْمُرْتَاضِ بِقَطْعِ الْمَنَازِلِ. فَإِذَا أَصَابَتْهُ الْمِحَنُ أَدْرَكَهُ الْجَزَعُ. وَصَعُبَ عَلَيْهِ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ. وَعَزَّ عَلَيْهِ وُجْدَانُ الصَّبْرِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ. فَيَكُونَ مُسْتَوْطِنًا لِلصَّبْرِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَيَلْتَذَّ بِالْبَلَاءِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ وَحْشَةً فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ: فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْتِذَاذَ الْمُحِبِّ بِامْتِحَانِ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وَالصَّبْرُ يَقْتَضِي كَرَاهِيَتَهُ لِذَلِكَ، وَحَبْسَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَرْهًا. فَهُوَ وَحْشَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ.
وَفِي الْوَحْشَةِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالْمِحْنَةِ فِي الْمَحَبَّةِ هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ أُنْسِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. فَإِذَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ - بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ - انْتَقَلَ مِنَ الْأُنْسِ إِلَى الْوَحْشَةِ. وَلَوْلَا الْوَحْشَةُ لَمَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ الْمُسْتَدْعِي لِلصَّبْرِ.
وَإِنَّمَا كَانَ أَنْكَرَهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ فِيهِ قُوَّةَ الدَّعْوَى. لِأَنَّ الصَّابِرَ يَدَّعِي بِحَالِهِ قُوَّةَ الثَّبَاتِ. وَذَلِكَ ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ قُوَّةً عَظِيمَةً. وَهَذَا مُصَادَمَةٌ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ. إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ قُوَّةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلْ لِلَّهِ الْقُوَّةُ جَمِيعًا. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
فَهَذَا سَبَبُ كَوْنِ الصَّبْرِ مُنْكَرًا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ. بَلْ مِنْ أَنْكَرِ الْمُنْكَرِ - كَمَا قَالَ - لِأَنَّ التَّوْحِيدَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى النَّفْسِ. وَإِثْبَاتُ النَّفْسِ فِي التَّوْحِيدِ مُنْكَرٌ.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ مُحَرَّرًا مُقَرَّرًا. وَهُوَ مِنْ مُنْكَرِ كَلَامِهِ.
بَلِ الصَّبْرُ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، وَأَلْزَمِهَا لِلْمُحِبِّينَ. وَهُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ مِنْ كُلِّ مَنْزِلَةٍ. وَهُوَ مِنْ أَعْرَفِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَبْيَنِهَا.
وَحَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ حَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةً، مَعَ مُنَافَاتِهِ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ مُنَازَعَاتِ النَّفْسِ لِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ؟
قِيلَ: هَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ وَأَعْلَقِهَا بِهَا. وَبِهِ يُعْلَمُ صَحِيحُ الْمَحَبَّةِ مِنْ مَعْلُولِهَا، وَصَادِقُهَا مِنْ كَاذِبِهَا. فَإِنَّ بِقُوَّةِ الصَّبْرِ عَلَى