هَذَا، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ - الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا - أَنَّ مَنْ آثَرَ مَرْضَاةَ الْخَلْقِ عَلَى مَرْضَاتِهِ: أَنْ يُسْخِطَ عَلَيْهِ مَنْ آثَرَ رِضَاهُ، وَيَخْذُلَهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَيَجْعَلَ مِحْنَتَهُ عَلَى يَدَيْهِ. فَيَعُودَ حَامِدُهُ ذَامًّا. وَمَنْ آثَرَ مَرْضَاتَهُ سَاخِطًا. فَلَا عَلَى مَقْصُودِهِ مِنْهُمْ حَصَلَ، وَلَا إِلَى ثَوَابِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَصَلَ. وَهَذَا أَعْجَزُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ.
هَذَا مَعَ أَنَّ رِضَا الْخَلْقِ: لَا مَقْدُورٌ، وَلَا مَأْمُورٌ، وَلَا مَأْثُورٌ. فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سُخْطِهِمْ عَلَيْكَ. فَلَأَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ وَتَفُوزَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَنْفَعُ لَكَ مِنْ أَنْ يَسْخَوْا عَلَيْكَ وَاللَّهُ عَنْكَ غَيْرُ رَاضٍ. فَإِذَا كَانَ سُخْطُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ - عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ - فَآثِرْ سُخْطَهُمُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ رِضَا اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ رَضُوا عَنْكَ بَعْدَ هَذَا، وَإِلَّا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ رِضَا مَنْ لَا يَنْفَعُكَ رِضَاهُ، وَلَا يَضُرُّكَ سُخْطُهُ فِي دِينِكَ، وَلَا فِي إِيمَانِكَ، وَلَا فِي آخِرَتِكَ. فَإِنْ ضَرَّكَ فِي أَمْرٍ يَسِيرٍ فِي الدُّنْيَا فَمَضَرَّةُ سُخْطِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَخَاصَّةً الْعَقْلُ: احْتِمَالُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا. وَتَفْوِيتُ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَاهُمَا. فَوَازِنْ بِعَقْلِكَ. ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ فَآثِرْهُ، وَأَيَّهُمَا شَرٌّ فَابْعُدْ عَنْهُ. فَهَذَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ.
هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ رِضَا اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ الْخَلْقِ. وَإِذَا آثَرَ رِضَاهُمْ لَمْ يَكْفُوهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَمُصَانَعَةُ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ مُصَانَعَةِ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. إِنَّكَ إِذَا صَانَعْتَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الْوَاحِدَ كَفَاكَ الْوُجُوهَ كُلَّهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. فَعَلَيْكَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلنَّفْسِ إِلَّا بِإِيثَارِ رِضَا رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا عَلَى غَيْرِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو فِرَاسٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى - إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ كُلَّ الْإِسَاءَةِ فِي قَوْلِهِ، إِذْ يَقُولُهُ لِمَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى. وَالْأَنَامُ غِضَابُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute