وَسَأَلْتُ يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَطْعِ الْآفَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِتَنْقِيَةِ الطَّرِيقِ وَتَنْظِيفِهَا؟
فَقَالَ لِي جُمْلَةَ كَلَامِهِ: النَّفْسُ مِثْلُ الْبَاطُوسِ - وَهُوَ جُبُّ الْقَذَرِ - كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ. وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وَتَعْبُرَهُ وَتَجُوزَهُ، فَافْعَلْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ. فَإِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى قَرَارِهِ. وَكُلَّمَا نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ.
فَقُلْتُ: سَأَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضَ الشُّيُوخِ؟ فَقَالَ لِي: مِثَالُ آفَاتِ النَّفْسِ مِثَالُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسَافِرِ. فَإِنْ أَقْبَلَ عَلَى تَفْتِيشِ الطَّرِيقِ عَنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِقَتْلِهَا: انْقَطَعَ. وَلَمْ يُمْكِنْهُ السَّفَرُ قَطُّ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ الْمَسِيرَ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. فَإِذَا عَرَضَ لَكَ فِيهَا مَا يَعُوقُكَ عَنِ الْمَسِيرِ فَاقْتُلْهُ. ثُمَّ امْضِ عَلَى سَيْرِكَ.
فَاسْتَحْسَنَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ جِدًّا. وَأَثْنَى عَلَى قَائِلِهِ.
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا. فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: رَأَتْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا عَبَثًا. وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ يُسْقَى بِهِ الْوَرْدُ، وَالشَّوْكُ، وَالثِّمَارُ، وَالْحَطَبُ، وَأَنَّهَا صَوَّانٌ وَأَصْدَافٌ لِجَوَاهِرَ مُنْطَوِيَةٍ عَلَيْهَا. وَأَنَّ مَا خَافَ مِنْهَا أُولَئِكَ هُوَ نَفْسُ سَبَبِ الْفَلَاحِ وَالظَّفَرِ. فَرَأَوْا أَنَّ الْكِبْرَ نَهْرٌ يُسْقَى بِهِ الْعُلُوُّ وَالْفَخْرُ، وَالْبَطَرُ وَالظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَيُسْقَى بِهِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَالْأَنَفَةُ، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْمُرَاغَمَةُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَهْرُهُمْ وَالْعُلُوُّ عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ دُرَّةٌ فِي صَدَفَتِهِ. فَصَرَفُوا مَجْرَاهُ إِلَى هَذَا الْغِرَاسِ. وَاسْتَخْرَجُوا هَذِهِ الدُّرَّةَ مِنْ صَدَفَتِهِ. وَأَبْقَوْهُ عَلَى حَالِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. لَكِنِ اسْتَعْمَلُوهُ حَيْثُ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ أَنْفَعَ. «وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَقَالَ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ، إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ» .
فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَّى مَجْرَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا الْخُلُقِ يَجْرِي فِي أَحْسَنِ مَوَاضِعِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ - وَأَظُنُّهُ فِي الْمُسْنَدِ - «إِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ. وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهَا اللَّهُ. فَالْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ: اخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ» .
فَانْظُرْ كَيْفَ صَارَتِ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ عُبُودِيَّةً؟ وَكَيْفَ اسْتَحَالَ الْقَاطِعُ مُوصِلًا؟
فَصَاحِبُ الرِّيَاضَاتِ، وَالْعَامِلُ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهِدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ: هَيْهَاتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute