رَائِحَةَ الْفُتُوَّةِ.
يَعْنِي أَنَّ الْعَدُوَّ مَتَّى عَلِمَ أَنَّكَ مُتَأَلِّمٌ مِنْ جِهَةِ مَا نَالَكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْكَ، وَيُشَفِّعَ إِلَيْكَ شَافِعًا يُزِيلُ مَا فِي قَلْبِكَ مِنْهُ. فَالْفُتُوَّةُ كُلُّ الْفُتُوَّةِ: أَنْ لَا تُحْوِجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ، بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مِنْكَ عَتَبٌ وَلَا تَغَيُّرٌ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْكَ قَبْلَ مُعَادَاتِهِ. وَلَا تَطْوِيَ عَنْهُ بِشْرَكَ وَلَا بِرَّكَ. وَإِذَا لَمْ تَخْجَلْ أَنْتَ مِنْ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَقَامَ الْمُعْتَذِرِ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِي الْفُتُوَّةِ نَصِيبٌ.
وَلَا تَسْتَعْظِمُ هَذَا الْخُلُقَ. فَإِنَّ لِلْفِتْيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَلَا تَسْتَصْعِبُهُ. فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّطَّارِ وَالْعُشَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي حَالِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا فِي لِسَانِهَا نَصِيبٌ، فَأَنْتَ أَيُّهَا الْعَارِفُ أَوْلَى بِهِ.
قَالَ: وَفِي عِلْمِ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا.
كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تُحْوِجْ عَدُوَّكَ إِلَى الْعُذْرِ وَالشَّفَاعَةِ. وَلَمْ تُكَلِّفْهُ طَلَبَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ عُذْرِهِ، فَكَيْفَ تُحْوِجُ وَلِيَّكَ وَحَبِيبَكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ لَكَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا تُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ لَكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ؟
وَهَلْ هَذَا إِلَّا خِلَافَ الْفُتُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَاكَ إِلَى دَارِهِ. فَقَلْتَ لِلرَّسُولِ: لَا آتِي مَعَكَ حَتَّى تُقِيمَ لِيَ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ مَنْ أَرْسَلَكَ، وَأَنَّهُ مُطَاعٌ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ. لَكُنْتَ فِي دَعْوَى الْفُتُوَّةِ زَنِيمًا. فَكَيْفَ بِمَنْ وَجُودُهُ، وَوَحْدَانِيَّتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَرُبُوبِيَّتُهُ، وَإِلَهِيَّتُهُ - أَظْهَرُ مَنْ كُلِّ دَلِيلٍ تَطْلُبُهُ؟ فَمَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ، إِلَّا وَوَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ وَكَمَالُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ. فَإِقْرَارُ الْفِطَرِ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ خَالِقِ الْعَالَمِ: لَمْ يُوقِفْهَا عَلَيْهِ مُوقِفٌ.
وَلَمْ تَحْتَجْ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: ١٠] . فَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ: طَالِبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute