للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُرِيدُ: أَنْ لَا يَمْنَعَكَ عَنْ الِانْبِسَاطِ إِلَيْهِ خَوْفٌ. فَإِنَّ مَقَامَ الْخَوْفِ لَا يُجَامِعُ مَقَامَ الِانْبِسَاطِ. وَالْخَوْفُ مِنْ أَحْكَامِ اسْمِ الْقَابِضِ وَالِانْبِسَاطُ مِنْ أَحْكَامِ اسْمِ الْبَاسِطِ.

وَالْبَسْطُ عِنْدَهُمْ: مِنْ مُشَاهَدَةِ أَوْصَافِ الْجِمَالِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّوَدُّدِ وَالرَّحْمَةِ.

وَالْقَبْضُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَدْلِ وَالِانْتِقَامِ.

وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْخَوْفَ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ. وَالِانْبِسَاطُ مِنْ مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ. إِذِ الِانْبِسَاطُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْعَارِفِينَ أَرْبَابِ التَّجَلِّيَاتِ. وَلَيْسَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ خَوْفٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَحْجُبَكَ رَجَاءٌ؛ فَلِأَنَّ الرَّاجِيَ لِطَلَبِهِ حَاجَتُهُ تَحْتَاجُ إِلَى التَّمَلُّقِ وَالتَّذَلُّلِ. فَيَحْجُبُهُ رَجَاؤُهُ وَطَمَعُهُ فِيمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمُعَظَّمِ عَنِ انْبِسَاطِهِ. كَالسَّائِلِ لِلْغَنِيِّ. فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَطَمَعَهُ يَمْنَعُهُ مِنِ انْبِسَاطِهِ إِلَيْهِ. فَإِذَا غَابَ عَنْ ذَلِكَ انْبَسَطَ.

وَقَوْلُهُ: وَلَا يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ. اسْتِعَارَةٌ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَرَاهُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَأَرْحَمَ بِكَ مِنْهُمَا، وَأَشْفَقَ عَلَيْكَ. فَلَا تُوَسِّطُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَبًا خَرَجْتَ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا أُمًّا رَكَضْتَ فِي رَحِمِهَا.

وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّكَ تُشَاهِدُ خَلْقَهُ لَكَ بِلَا وَاسِطَةٍ. كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. فَتُشَاهِدُ خَلْقَهُ لَكَ بِيَدِهِ، وَنَفْخَهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ. وَإِسْجَادَ مَلَائِكَتَهُ لَكَ. وَإِبْعَادَ إِبْلِيسَ حَيْثُ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ. وَأَنْتَ فِي صُلْبِ أَبِيكَ آدَمَ.

وَهَذَا يُوجِبُ لَكَ شُهُودَ الِانْطِوَاءِ عَنْ الِانْبِسَاطِ. وَهُوَ رَحْبُ الْهِمَّةِ لِانْطِوَاءِ انْبِسَاطِ الْعَبْدِ فِي بَسْطِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ.

وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ لَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ انْبِسَاطًا وَلَا انْقِبَاضًا. بَلْ يَنْطَوِي انْبِسَاطُهُ وَيَضْمَحِلُّ فِي صِفَةِ الْبَسْطِ الَّتِي لِلْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَهَذَا شُهُودُ مَعْنَى اسْمِ الْبَاسِطِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَهَذَا تَقْدِيرُ كَلَامِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مَقْبُولًا وَمَرْدُودًا. وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهَا بِالْخَلْقِ: فَصَحِيحٌ.

نَعَمْ هَاهُنَا مَقَامُ اشْتِبَاهٍ وَفَرْقٍ. وَهُوَ أَنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ: لَا بُدَّ أَنْ يُقَارِنَهُ أَحْيَانًا فَرَحٌ بِمَحْبُوبِهِ. وَيَشْتَدَّ فَرَحُهُ بِهِ. وَيَرَى مَوَاقِعَ لُطْفِهِ بِهِ، وَبِرِّهِ بِهِ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ وَحُسْنَ دِفَاعِهِ عَنْهُ، وَالتَّلَطُّفَ فِي إِيصَالِهِ الْمَنَافِعَ وَالْمَسَارَّ وَالْمَبَارَّ إِلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَدَفْعَ الْمَضَارِّ وَالْمَكَارِهِ عَنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>