وَهَذِهِ الْفِرَاسَةُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ. فَمَنْ كَانَ أَقْوَى إِيمَانًا فَهُوَ أَحَدُّ فِرَاسَةً.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: مَنْ نَظَرَ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ نَظَرَ بِنُورِ الْحَقِّ، وَتَكُونُ مَوَادُّ عِلْمِهِ مَعَ الْحَقِّ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ. بَلْ حُكْمُ حَقٍّ جَرَى عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ.
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: الْفِرَاسَةُ شَعَاشِعُ أَنْوَارٍ لَمَعَتْ فِي الْقُلُوبِ، وَتَمَكُّنُ مُعْرِفَةِ جُمْلَةِ السَّرَائِرِ فِي الْغُيُوبِ مَنْ غَيْبٍ إِلَى غَيْبٍ، حَتَّى يَشْهَدَ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَيْثُ أَشْهَدَهُ الْحَقُّ إِيَّاهَا، فَيَتَكَلَّمَ عَنْ ضَمِيرِ الْخَلْقِ.
وَقَالَ الدَّارَانِيُّ: الْفِرَاسَةُ مُكَاشَفَةُ النَّفْسِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ، وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ.
وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْفِرَاسَةِ؟ فَقَالَ: أَرْوَاحٌ تَتَقَلَّبُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَتُشْرِفُ عَلَى مَعَانِي الْغُيُوبِ. فَتَنْطِقُ عَنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ، نُطْقَ مُشَاهَدَةٍ لَا نُطْقَ ظَنٍّ وَحُسْبَانٍ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ نُجِيدٍ: كَانَ شَاهُ الْكِرْمَانِيُّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا يُخْطِئُ. وَيَقُولُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ: لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَدَّادُ: الْفِرَاسَةُ أَوَّلُ خَاطِرٍ بِلَا مُعَارِضٍ، فَإِنْ عَارَضَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ. فَهُوَ خَاطِرٌ وَحَدِيثُ نَفْسٍ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ. وَلَكِنْ يَتَّقِي الْفِرَاسَةَ مِنَ الْغَيْرِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» . وَلَمْ يَقُلْ: تَفَرَّسُوا. وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: إِذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوهُمْ بِالصِّدْقِ. فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ، يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُونَ.
وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَوْمًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ مُتَنَكِّرًا. فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» فَأَطْرَقَ الْجُنَيْدُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: أَسْلِمْ. فَقَدْ حَانَ وَقْتُ إِسْلَامِكَ. فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ.