فَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ حَقٌّ، وَمِنْهُ بَاطِلٌ. وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ عَدْلٌ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ عَدْلٌ، وَمِنْهُ جَوْرٌ، وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ مَرَضِيٌّ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ مَرَضِيٌّ، وَمِنْهُ مَسْخُوطٌ. وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ مُسَالِمٌ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ مَا يُسَالِمُ، وَمِنْهُ مَا يُحَارِبُ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ. وَهُوَ مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ كَمَا رَأَيْتَ وَالْمُنْحَرِفُ عَنْهُ: إِمَّا جَاهِلٌ لِلْحِكْمَةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ، أَوْ لِلْأَمْرِ وَالشَّرْعِ وَلَا بُدَّ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا يُبْتَغَى لِلْحُكْمِ عِوَجٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَدْفَعُ بِعِلْمٍ
فَأُشْكِلَ مِنَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَدَرِ. وَحَاكِمٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ.
فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، أَنْ يُقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدْرُهُ وَحُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ، لَا يُنَاقِضُ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَحُكْمَهُ الدِّينِيَّ. بِحَيْثُ تَقَعُ الْمُدَافَعَةُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ هَذَا مَشِيئَتُهُ الْكَوْنِيَّةُ. وَهَذَا إِرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادَانِ قَدْ يَتَدَافَعَانِ وَيَتَعَارَضَانِ. لَكِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا: أَنْ لَا يُدَافَعَ بِالْآخَرِ وَلَا يُعَارَضَ. فَإِنَّهُمَا وَصْفَانِ لِلرَّبِّ تَعَالَى. وَأَوْصَافُهُ لَا يُدَافَعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِنِ اسْتُعِيذَ بِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. فَالْكُلُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. وَهُوَ الْمُعِيذُ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» فَرِضَاهُ - وَإِنْ أَعَاذَ مِنْ سَخَطِهِ - فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَدْفَعُهُ. وَإِنَّمَا يَدْفَعُ تَعَلُّقَهُ بِالْمُسْتَعِيذِ. وَتُعَلُّقُهُ بِأَعْدَائِهِ بَاقٍ غَيْرُ زَائِلٍ. فَهَكَذَا أَمْرُهُ وَقَدَرُهُ سَوَاءٌ. فَإِنَّ أَمْرَهُ لَا يُبْطِلُ قَدْرَهُ، وَلَا قَدْرُهُ يُبْطِلُ أَمْرَهُ. وَلَكِنْ يَدْفَعُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَضَائِهِ. فَمَا دُفِعَ قَضَاؤُهُ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ. فَلَمْ يَدْفَعِ الْعِلْمُ الْحُكْمَ بَلِ الْمَحْكُومَ بِهِ. وَالْعِلْمُ وَالْحُكْمُ دَفَعَا الْمَحْكُومَ بِهِ الَّذِي قُدِّرَ دَفْعُهُ وَأُمِرَ بِهِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا. فَإِنَّهُ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، وَالتَّنْفِيذِ لَهُ بِالْقَدَرِ، فَمَا نَفَّذَ الْمُطِيعُ أَمْرَ اللَّهِ إِلَّا بِقَدَرِ اللَّهِ. وَلَا دُفِعَ مَقْدُورُ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَرْضَى بِعِوَضٍ
أَيْ أَنَّ صَاحِبَ مَشْهَدِ الْحُكْمِ قَدْ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ لَا يَطْلُبُ مَعَهُ عِوَضًا. وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْعِوَضِ. فَإِنَّهُ يُشَاهِدُ جَرَيَانَ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمَ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute