وَلَيْسَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ حُبَّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ تَأَمُّلِ قَبَائِحِهِ وَمُسَاوِيهِ. فَلَا تَرَاهَا وَلَا تَسْمَعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: ذِكْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّبِّ. وَلَا يُقَالُ فِي حُبِّ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حُبُّكَ الشَّيْءَ. وَلَا يُوصَفُ صَاحِبُهَا بِالْعَمَى وَالصَّمَّ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ قَدْ يَعْمَى وَيَصِمُّ عَنْهُ بِالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، وَلَكِنْ لَا تُوصَفُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَلَيْسَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ. بَلْ هُمْ أَهْلُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ سِوَاهُمْ هُمُ الْبُكْمُ الْعُمْيُ الصُّمُّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَيْلُكَ لِلشَّيْءِ بِكُلِّيَّتِكَ. ثُمَّ إِيثَارُكَ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَرُوحِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ مُوَافَقَتُكَ لَهُ سِرًّا وَجَهْرًا. ثُمَّ عِلْمُكَ بِتَقْصِيرِكَ فِي حُبِّهِ.
قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ فِي الْقَلْبِ، تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لُمْتُ بَعْضَ الْإِبَاحِيَّةِ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيَّ شَيْءٍ أَبْغَضَ مِنْهُ؟
قَالَ الشَّيْخُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ أَفْعَالًا وَأَقْوَالًا وَأَقْوَامًا وَعَادَاهُمْ فَطَرَدَهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ: تَكُونُ مُوَالِيًا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ مُعَادِيًا لَهُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا. وَافْتُضِحَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ مُقَدَّمًا فِيهِمْ مُشَارًا إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ: وَقَائِلُهُ إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهَا تُحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَا الْمُرَادَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. لَكِنْ لِقِلَّةِ حَظِّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ: وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَحْبُوبِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute