والحديث حث على الجماعة، وفيه دليل على عدم وجوبها وأنها ليست شرطاً لصحة الصلاة. قال الباجي: والاستدلال منه بمعنيين: الأول بلفظ: تفضل، فلو لم تكن صلاة الفذ مجزئة لما وصفت بأنها تفضل؛ لأنه لا تفاضل بين صلاة الجماعة وبين ما ليس بصلاة. والثاني بالدرجات، فلو لم تكن لصلاة الفذ درجة لما جاز أن يقال إن صلاة الجماعة تزيد عليها سبعاً وعشرين درجة- انتهى. ويدل عليه أيضاً ما ورد في رواية لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل الفضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه. وقال الشوكاني: والمشترك ههنا لابد أن يكون هو الإجزاء والصحة، وإلا فلا صلاة فضلاً عن الفضل. وقال السندي: استدلوا بهذا الحديث وأمثاله على عدم وجوب الجماعة؛ لأن تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بتلك الدرجات فرع صحة صلاة الفذ، وهذا ليس بشيء؛ لأن معنى وجوب الجماعة عند غالب من يقول به من العلماء هو أنها واجبة على المصلي حالة الصلاة يأتم المصلي بتركها بلا عذر، لا أنها من واجبات الصلاة، بمعنى أنها شرط في صحتها، تبطل الصلاة بانتفائها، فإنه ما قال بالمعنى الثاني إلا شرذمة قليلون- انتهى. وأجيب أيضاً بأن المراد من الحديث إنما هو الترغيب في الجماعة ببيان زيادة ثوابها على صلاة المنفرد لا غير، وأما الوجوب فله دليل آخر، والحاصل أن الحديث إنما سيق لبيان فضل الجماعة والترغيب فيها، لا لبيان السنية أو الوجوب، وإنما ذكر صلاة الفذ وقابل بها ليظهر فضل صلاة الجماعة، فهو لتعقل صورة الحساب فقط كما في حديث الزكاة عند أبي داود: في كل أربعين درهماً درهم، فإنه لم يرد به بيان النصاب ليجب درهم على من كان عنده أربعون درهماً، إنما أراد به بيان الحساب بأن الخمسة في المأتين كالدرهم في الأربعين. هكذا حديث ابن عمر هذا وما شابهه إنما سيق لبيان الحساب لا لصحة صلاة المنفرد بمعنى عدم نقصان فيها، فتأمل. وقال بعضهم: إن صيغة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين، كقوله تعالى:{وأحسن مقيلاً}[٢٥: ٢٤] . وتعقب بأنه إنما يقال ذلك على قلة حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلابد من وجود أصل العدد. وقال بعضهم: يحمل الفذ في الحديث على المعذور أي المنفرد لعذر. وتعقب بأن قوله: صلاة الفذ، صيغة عموم، فيشمل من صلى منفردا بعذر وبغير عذر فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور؛ لأن الأحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما يفعله لولا العذر، فروى أبوموسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً. رواه أحمد والبخاري وأبوداود، وعن أبي هريرة مرفوعاً: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.