ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر؛ لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم من علقة ثم من مضغة مهيأة لنفخ الروح فيه، يقدر على حشره ونفخ الروح فيه. ومنها تعليم العباد في تدريج الأمور وعدم تعجيلهم فيها، فإنه تعالى مع كمال قدرته وقوته على خلقه دفعة حيث خلقه مدرجاً، فإن الإنسان أولى به التأني في فعله. ومنها تنبيههم وتفهيمهم أصلهم وفرعهم، فلا يغتروا بقوة أبدانهم وأعضائهم وحواسهم، ويعرفوا أنها كلها عطايا وهدايا، بل على وجه العارية موجودة عندهم لينظروا إلى مبدئهم (ثم يبعث الله إليه ملكاً) أي يرسل، أي في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه ويتشكل أعضاؤه، والمراد بالبعث والإرسال بهذه الأشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه مؤكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب نطفة يا رب علقة. وقيل: ذلك ملك آخر غير ملك الرحم (بأربع كلمات) أي بكتابتها (بيكتب) أي بين عينيه كما ورد مرفوعاً عن ابن عمر في مسند البزار وفي صحيفته أيضاً كما تدل عليه حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم في باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه من كتاب القدر. وورد في رواية أخرى لحذيفة عند مسلم أيضاً أنه إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك – الحديث. وظاهر هذا أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه، وكتابة الملك يكون في أول الأربعين الثانية، وهو مخالف لحديث ابن مسعود هذا. ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يصور ويكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة. وقال النووي: لتصرف الملك أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقله علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته وخلقته وصورته، ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه وكونه ذكراً أو أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة وقبل انقضاء هذه الأربعين وقبل نفخ الروح، فالمراد بتصويرها وخلق سمعها بعد الأربعين الأولى أي في أول الأربعين الثانية أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجودة في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، ثم يكون للملك فيه تصرف آخر وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة حين يكمل له أربعة أشهر- انتهى مختصراً. وأما الاختلاف في وقت الكتابة كما هو ظاهر من ملاحظة الروايات، فقال بعض العلماء في دفعه: إنه يكتب ذلك مرتين: أحدهما في السماء والآخرة في بطن الأم. وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنما يراد به ترتيب الأخبار لا ترتيب المخبر عنه في نفسه. وقال بعضهم: قوله: "ثم يبعث الله ملكاً فيكتب عمله ... " الخ عطف على "يجمع في بطن أمه" لا على "ثم يكون مضغة"، وإنما أخر ذكرها إلى ما بعد ذكر المضغة لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين، فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن، والأظهر