فإن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون عن شيء أطول منه. وأجيب عنه بوجوه: منها أن الآية وردت في قصر صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب في الخوف. فالمراد بالقصر في الآية إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات في الخوف دون القصر في عدد الركعات في صلاة السفر. ومنها أن المراد بالقصر في الآية القصر في كمية الركعات وعددها، وبالصلاة صلاة الخوف لا صلاة المسافر. فالآية نزلت في قصر العدد في صلاة الخوف لا في صلاة السفر. ومنها أنه إنما أتى بهذه العبارة؛ لأن المسلمين لكمال ولعهم بالعبادة وتكثيرها وأدائها بالتمام كأنهم كانوا يتحرجون في القصر، وكانوا يعدونه جناحاً فقال:{ليس عليكم جناح أن تقصروا} ولا حرج، فإن الركعتين في حكم الأربعة كما قال الذين ذهبوا إلى وجوب السعي بين الصف والمروة في قوله تعالى:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما}[١٥٨:٢] وقال ابن القيم في الهدي (ج١ ص١٣١) : وقد يقال: إن الآية اقتضت قصر يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف، مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بالنا نقصر؟ وقد أمنا؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -