وثانيا، بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد إني أكثر الصوم وكان هو كثير الصوم كما ورد في بعض الروايات، ويؤيد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسرد الصوم مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، وإنه لم يصم شهراً كاملاً إلا رمضان، وبهذا يجاب عما روى عن عمر وعائشة إنهما كانا يسردان الصوم. واحتجوا أيضاً بما وقع في بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو الآتي صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر: وقوله في حديث أبي أيوب الآتي من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر قالوا، والمشبه به يكون أفضل من المشبه فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات فيكون مستحبا وهو المطلوب. وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضى جوازه فضلا عن استحبابه. وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ومن المعلوم إن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه كذا ذكره الحافظ. وقد بسط هذا الجواب ابن القيم في الهدي فأجاد. وأجاب الجمهور عن حديث لا صام من صام الأبد، وحديث لا صام ولا أفطر بأجوبة. أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين وأيام التشريق. وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا إثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله "لا صام ولا أفطر" لمن لم يعلم تحريمها، كذا ذكره الحافظ في الفتح وهو ملخص كلام ابن القيم في الهدي. وقد تعقب ابن دقيق العيد تأويل الجمهور هذا بوجه آخر من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة (ج٢ص٢٣٦- ٢٣٧) الثاني إنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقاً، قالوا ويؤيده أن النهي كان خطابا لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة قالوا، فنهي ابن عمر ولعلمه بأنه سيعجز عنه ويضعف وأقر حمزة لعلمه بقدرته بلا ضرر. وفيه إن هذا التأويل أيضاً مردود لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم في أنس من رغب عن سنتي فليس مني، ويرده أيضاً قوله لا أفضل من ذلك، ويرده أيضاً ورود قوله "لا صام ولا أفطر" وقوله: لا صام من صام الأبد عن غير واحد من الصحابة سوى عبد الله بن عمرو كما تقدم، ويرده أيضاً حديث أبي موسى المتقدم.