وبما رواه أيضاً من حديث ابن عباس قال: ما رأيته مفطراً يوم جمعة قط، وفي سندهما ليث بن أبي سليم. وقد تقدم الكلام فيه. وأما حديث ابن مسعود فقال الحافظ في الفتح: ليس فيه حجة، لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة أفراده بالصوم، جمعاً بين الحديثين. وقال في التلخيص (ص١٩٩) قال ابن عبد البر: لا مخالفة بينه وبين أحاديث النهي، فإنه محمول على أنه كان يصله بيوم الخميس. وقال العيني: لا دلالة في حديث ابن مسعود وما في معناه أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم الجمعة وحده فنهيه عن صوم يوم الجمعة في أحاديث النهي يدل على أن صومه يوم الجمعة لم يكن في يوم الجمعة وحده بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صحيح صريح فحينئذٍ يكون نسخا أو تخصيصاً وكل واحد منهما منتف-انتهى. وقال ابن القيم يتعين حمل حديث ابن مسعود إن كان صحيحا على صومه مع ما قبله أو بعده. قلت وأرجح الأقوال عندي: قول من ذهب إلى تحريم إفراد يوم الجمعة بالصيام لما قد صح النهي عنه، والأصل في النهي التحريم والله تعالى أعلم. واختلف في وجه تحريم تخصيصه بالصوم. قال الشاه ولي الله: السر فيه. أي في النهي عن شيئان، أحدهما سد التعمق، لأن الشارع لما خصه أي من بين الأيام بطاعات وبين فضله، كان مظنة أن يتعمق المتعمقون فيلحقون بها صوم ذلك اليوم أي ابتداعا من عند أنفسهم فمنعوا سد اللباب. قال وثانيهما تحقيق معنى العيد فإن العيد يشعر بالفرح واستيفاء اللذة، والسر في جعله عيدا أن يتصور عندهم أنها من الاجتماعات التي يرغبون فيها من طبائعهم من غير قسر-انتهى. وقال الحافظ: اختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال أحدها لكونه يوم عيد، والعيد لا يصام ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا يوم جعله الله عيدا، وروى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صيام يوم عيد. واستشكل التعليل بذلك بوقوع الإذن من الشارع بصومه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن إقامة وظائف الجمعة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها وهذا اختاره النووي. وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه. وأجاب بأنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه قال الحافظ: وفيه نظر فإن الجبر لا ينحصر في الصوم، بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن اعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك، وأيضاً فكان النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف، لا من يتحقق القوة ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه.