أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضي بقلبه، والثاني لا يتأتي من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل قال القشيري ويصح أن يقال ما كان للمسلمين فيه نصيب أو لله سبحانه وتعالى فيه حق فالدعاء أولى لكونه عبادة وإن كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتم، وعبر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله يستحب أن يدعوا لغيره وبترك لنفسه يعني إن دعا لغيره من المسلمين فحسن وإن دعا لنفسه فالأولى تركه. قال النووي في شرح مسلم: القول باستحباب الدعاء مطلقاً هو القول الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار، ودليلهم ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله. وقال في الأذكار: المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف إن الدعاء مستحب. قال الله تعالى وقال ربكم {ادعوني استجب لكم} وقال تعالى {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}[الأعراف: ٥٥] والآيات في ذلك كثير مشهورة. وأما الأحاديث الصحيحة فهي أشهر من أن تشهر، وأظهر من أن تذكر واعلم أن للدعاء آداباً يجب على الداعي مراعاتها، وقد ذكرها الجزري في الحصن والنووي في الأذكار وبسط الكلام عليها مع البحث عن أدلتها الشوكاني في تحفة الذاكرين، وكذا الغزالي في الإحياء والزبيدي في شرحه فعليك أن تراجع هذه الكتب، وسيأتي التنبيه على بعض آداب الدعاء وشرائطه في شرح أحاديث الباب. قال الغزالي في الإحياء (ج١ص١٩٨) فإن قلت فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له، فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يجعل السلاح. وقد قال تعالى:{خذوا حذركم}[النساء: ٧١] ولا أن لا يسقى الأرض بعد بث البذر، فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج، والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب، والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته. ثم في الدعاء من الفائدة (أي زيادة على الفائدة التي هي الإتيان بالسبب في رد البلاء) ما ذكرناه في الذكر وهو حضور القلب مع الله تعالى وهو منتهى العبادات، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: الدعاء مخ العبادة، والغالب على الخلق إنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة، فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء، والدعاء يرد القلب إلى الله عزوجل بالتضرع والاستكانة، فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات، ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل، لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله وتمنع من نسيانه ويذكر بنعمته وإحسانه.