يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقًا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأموران يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، وتوصله إلى مقصودة وفيها فلاحه فها هنا أموال لابد منهما مفارقة شيء. والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفرادهما يتناول الأمرين، ولهذا والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبًا بقوله:{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}(هود: ٩٠) فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم. وقيل: في الفرق بينهما إن التوبة لا تكون إلا لنفسه أي لما اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}(الحشر: ١٠) وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}(غافر: ٧) وإن التوبة هي الندم على ما فرط في الماضي، والغرم على الامتناع منه في المستقبل، والاستغفار طلب الغفران لما صدر منه ولا يجب فيه الغرم في المستقبل هذا. وللتوبة أحكام لا يليق بالعبد جهلها. ذكر ابن القيم نبذًا منها في مدارج السالكين شرح منازل السائرين (ج١:ص١٥٠: ١٦٩) فعليك أن تطالعه وأضف إلى ذلك مطالعة كتاب التوبة من الإحياء للغزالي, وقد عقد ابن القيم في المدارج (ج١: ص١٧٢، ١٧٣) فصلاً لإيضاح الفرق بين الذنب والسيئة والتكفير والمغفرة فطالعه أيضًا مع ما تعقبه وعلق عليه محشيه وقد ذكر صاحب المنازل أسرارًا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته. قال صاحب المنازل: ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء أولها: أن ينظر الجناية والقضية فيعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها، فإن الله عز وجل إنما خلي العبد والذنب لمعنيين أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته. الثاني: أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته. قال ابن القيم في شرح هذا الكلام (ج١: ص١١١) اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسه أمور أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب. الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفًا وخشية تحمله على التوبة. الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها، فيحدث له ذلك أنواعًا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون