للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عن المشائخ الحنفية في أن العبرة عندهم لرأى المبتلى به، فإن ظنه نجساً كان نجساً، وإن ظنه طاهراً كان طاهراً، لكنهم لما رأوا أن هذا يفضي إلى اختلاف العوام في أمر طهارة الماء الذي لاقته النجاسة، ويستلزم عدم انضباط مسألة الطهارة لتفرق آرائهم وظنونهم حددوا لذلك حدوداً ينتظم بها أمرهم، فمنهم من قدر الكثير من الماء، وهم قدماء الحنفية، وعزاه محمد في موطأه إلى أبي حنيفة بأنه الماء الذي إذا حرك أحد طرفيه آدمي لم تسر الحركة إلى الطرف الآخر، ثم اختلفوا في التحريك المعتبر هل هو بالوضوء، أو بالاغتسال، أو باليد؟ ومنهم من قدر الكثير - وهم أكثر المتأخرين من الحنفية - بالعشر في العشر. ولا دليل لهم على هذه التحديدات لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا من آثار الصحابة، ولا من قياس صحيح. وأما أصل مذهب أبي حنيفة وهو إدارة الأمر على رأى المبتلى به، فقد احتجوا لذلك بحديث الاستيقاظ أول أحاديث باب سنن الوضوء، وبحديث ولوغ الكلب، والأمر بإراقة ما ولغ الكلب فيه، وهو أول أحاديث باب تطهير النجاسات، وبحديث النهى عن البول في الماء الدائم، وقد طول ابن نجيم في البحر الرائق الكلام في تقرير الاستدلال بهذه الأحاديث، ونقله الشيخ عبد الحي اللكنوى في السعاية حاشية شرح الوقاية، ثم أجاب عنه، ولقد أجاد وأصاب في الجواب؛ وأجيب أيضاً بأن هذه الأحاديث ليست ورادة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الأمر باجتنابها تعبدي لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها. وقيل: بل النهى في هذه الأحاديث للكراهة فقط وهي طاهرة مطهرة. وقيل: هي محمولة على القليل أي: ما دون القلتين. وأجاب بعضهم عن أصل مذهب أبي حنيفة بأن الظن والرأى لا ينضبط، بل يختلف باختلاف الأشخاص، ففي إدارة الأمر على ذلك من الحرج ما لا يخفى، وأيضاً جعل ظن الاستعمال مناطاً يستلزم استواء القليل والكثير وذهبت الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر، وذلك نحو خمسمائة رطل عملاً بحديث القلتين وما عداه فهو القليل. وحديث "الماء لاينجسه شيء" الخ. محمول عندهم على ما بلغ القلتين فما فوقها، وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الدائم محمول على القليل، وهو أقوى المذاهب وأرجحها عندي. والله أعلم. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج١:ص١٤٧) : قد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألبتة. وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين، كأثر ابن الزبير في الزنجي، وعلي في الفارة، والنخعي والشعبي في نحو السنور، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب، وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذكر في كتب المالكية، ودون نفي هذا الاحتمال خرط القتاد. وبالحملة فليس في هذا الباب شيء يعتد به، ويجب العمل عليه، وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات، وهي مما يكثر وقوعه، وتعم به البلوى، ثم لا ينص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه – انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>