للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

في الأرضين السبع. قال القاري: يعني ما أعلمه الله تعالى مما فيهما من الملائكة والأشجار وغيرهما، وهو عبارة عن سعة علمه الذي فتح الله به عليه، قال: ويمكن أن يراد بالسموات الجهة العليا، وبالأرض الجهة السفلى، فيشمل الجميع لكن لا بد من التقييد الذي ذكرنا، إذ لا يصح إطلاق الجميع كما هو الظاهر-انتهى. اعلم أنه قد استدل بعض القبوريين في هذا الزمان بقوله: فعلمت ما في السموات والأرض، على ما ابتدعوا واعتقدوا من أن الله تعالى قد خص نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنبياء بعلم جميع ما كان من بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فكان علمه - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء محيطاً بجميع الأشياء حقائقها وعوارضها وصفاتها إحاطةً تامةً كليةً بتعليم الله تعالى وإلهامه، كما أنه تعالى أحاط بكل شيء علماً، ولا فرق بين علمه تعالى وعلم رسوله عندهم إلا أن علم الله ذاتي وحقيقي، وعلم رسوله ليس بذاتي بل وهبي، حصل له بتعليم الله وانكشف له الأشياء بإلهامه، وهذا كما تراه مخالف للعقل والنقل من النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله، وتصريحات السلف الصالح من الصحابة والتابعين والمحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم. قالوا في وجه الاستدلال: أن لفظه "ما" في الحديث للعموم الاستغراق فتعم جميع الممكنات من الموجودات، والمعدومات وذوات العقول، وغيرها بل تشتمل الواجبات والممتنعات أيضاً. قلت: استدلالهم هذا مخدوش من وجوه بل باطل، الأول: أن لفظة "ما" في أصل الوضع لغير ذوى العقول عند المحققين فيخرج من مفهومها ذوات العقول كما يدل عليه قصة ابن الزبعري في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [٩٨:٢١] وعلى هذا فلا تكون الرواية دليلاً على كون علمه - صلى الله عليه وسلم - محيطاً بجميع الأشياء إحاطة كلية. والثاني: أن من ذهب إلى كونها شاملة لذوى العقول وهم الأكثر من علماء الأصول قد صرحوا بأنها إنما تشمل صفات من يعقل فقط لا ذواتهم، أعنى أن ذوات من يعقل خارجة من مفهومها عندهم أيضاً بحسب أصل الوضع، فلا تشملها إلا بقرينة ولا قرينة ههنا تدل على ذلك، بل الأمر بالعكس كما سيأتي، فبطل بذلك دعوى العلم الكلي له - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أن قوله: في السموات والأرض، في الحديث يدل على أن المراد بلفظه "ما" إنما هي الممكنات فقط لا الواجبات والممتنعات، وذلك لأن تقدير الكلام: فعلمت ما هو كائن، أو ثابت، أو متحقق، أو موجود، أو حاصل، أو مستقر، أو حادث في السموات والأرض. وهذا إنما هو شأن الممكن بالإمكان الخاص لا الواجب والممتنع، وهذا يبطل دعوى القبوريين بكون علمه عليه السلام كليا محيطا بجميع الأشياء. والرابع: أن سياق الحديث يدل على أن لفظة ما ههنا ليست للعموم والاستغراق، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين ذلك باستشهاده بقوله تعالى: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض} [٧٥:٦] ما علمه الله عزوجل في المنام، وهو عجائب السموات والأرض فقط لا جميع ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وإلا يلزم أن يقال: إن إبراهيم عليه السلام أيضاً كان عالما بجميع الأشياء بعلم كلي محيط إحاطة تامة، ويبطل بذلك دعوى الخصوصية، وهو خلاف ما ذهب إليه القبوريون من أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مناص من أن يقال أن لفظة "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق. والخامس: أنه قد ثبت بنصوص الكتاب والسنة

<<  <  ج: ص:  >  >>