تعسف (فإنها) أي: الخميصة (ألهتي) من لهي – بكسر – إذا غفل، لا من "لها لهوا" إذا لعب (آنفاً) أي: قريباً، أو في هذه الساعة (عن صلاتي) وعند مالك في الموطأ: فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني. وفي الرواية الآتية "فأخاف أن يفتنني" فيحمل قوله "ألهتني" على قوله "كاد" فيكون الإطلاق للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء. وقيل: معنى قوله "يفتنني" يلهني عن الصلاة إلهاء أتم مما وقع منها أولا، فلا تنافي بين الجزم بوقوع الإلهاء بهاء ثم، وخشية وقوعه بها هنا. وكان ذلك هو حكمة التغاير بين الأسلوبين حيث عبر أولاً بالإلهاء وثانياً بالفتنة. والحاصل أن المراد بالفتنة شيء فوق الإلهاء. وقيل: معنى ألهتني: أرادت أن تلهيني فلا ينافي قوله "فأخاف أن يفتنني" بمعنى يلهيني، بل يكون الثاني تفسيرا للأول. ولا يقال: إن المعنى شغلتني عن كمال الحضور في صلاتي، لأنا نقول: قوله "فأخاف أن يفتنني" يدل على نفي وقوع ذلك. وقد يقال: إن له عليه الصلاة والسلام حالتين حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك فبالنظر إلى الحالة البشرية قال ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: أخاف. ولا يلزم من ذلك الوقوع. ونزع الخميصة ليستن به في ترك كل شغل، فهو تشريع لأمته، وليس المراد أن أبا جهم يصلي في الخميصة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليبعث إلى غيره بما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء الحلة لعمر مع تحريم لباسها عليه، لينتفع بها ببيع أو غيره. وقيل كان هو أعمى فالإلهاء مفقود في حقه. قال ابن الجوزي: قيل: كيف خاف الإفتتنان بعلم من لم يلتفت إلى الأكوان بليلة ما زاغ البصر؟ وأجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من وراءه، فإذا رد إلى طبعة أثر فيه ما يؤثر في البشر. وقيل: أيضاً إن المراقبة في الصلاة شغلت خلقا من أتباعه حتى أنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب بأن أولئك كانوا يؤخذون عن طبائعهم فيغيبون عن وجودهم. وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص وغير الكل فقال: لست كأحدكم، وإن سلك طريق غيرهم قال "إنما أنا بشر مثلكم" فرد إلى حالة الطبع ليستن به في ترك كل شاغل-انتهى. واستنبط من الحديث الحث على حضور القلب في الصلاة، وترك ما يؤدي إلى شغله. وقد شهد القرآن بالفلاح للمصلين الخاشعين، والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة. وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب. وقال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الزاهرة تأثيراً في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلاً عما دونها. وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد ونحوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري. وقال ميرك: فيه نظر لأنه ليس هذا الحديث في مسلم بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ البخاري. ولفظ مسلم عن عائشة، قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى أعلامها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، رائتوني بأنجانيته، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي. فانظر في اختلاف الألفاظ-انتهى. قلت: مقصود المصنف أن أصل الحديث متفق عليه لا خصوص هذا اللفظ. وعلى هذا