بل قد أخذوه، ثم أخذوا أيضاً ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قد أجمع عليه الصحابة بعده، وما هو ثابت بتواتر الإسناد والعمل، بخلاف الحنفية فإنهم تركوا بل طرحوا الثابت، وتمسكوا بما لم يثبت، وليس الأخذ بالضعيف أو غير الثابت من الاحتياط في شيء، إنما الاحتياط في الأخذ بما ثبت لا بما لم يثبت. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الصلاة انتقلت عن الحركات إلى السكون، فإنه كان في أول الأمر المشي وأمثاله مباحة، فلما تعارضت الروايات أخذت الحنفية الأقرب إلى السكون. وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى ما ذكره هو أولاً وقد بينا فساده. ثم نقول: إن تلك الحركات كانت من الأمور العادية، ومنع منها لكونها منافية للخشوع والسكون، بخلاف الرفع المتنازع فيه، فإنه من أمور العبادة وليس منافياً للخشوع، بل هو مورث للخشوع أو عينه كما بينا، ولم يثبت التغيير فيه أصلاً كما صرح به غير واحد من علماء الحنفية، وادعاء التعارض بين أحاديث الرفع والترك جهل، فإنه لا بد لتحققه من المساواة في القوة، والضعيف لا يعارض القوي والصحيح. والعجب ممن يفرق بين الرفع في القنوت والعيدين، وبين الرفع في المواضع الثلاثة، مع أن الرفعين من جنس واحد، ومع أن الترك مطلقاً أقرب إلى السكون، ومع أن الرفع في القنوت والعيدين لم يثبت مرفوعاً بسند صحيح، ومع أن الرفع في المواضع الثلاثة ثابت حقاً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن أكثر من روى أحاديث الرفع تشمل رواياتهم الزائد من المواضع الثلاثة، فهو متروك عند من استدل بها أيضاً. وأحاديث الناقلين للترك محكم في موداه ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضاً. وفيه أن الأحاديث في ذلك على ثلاثة أنواع: الأول أحاديث الترك في غير التحريمة. والثاني أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط. والثالث الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة. وقد سبق أن أحاديث الناقلين للترك كلها ضعيفة غير صالحة للاستدلال، بل بعضها باطلة موضوعة، فليست هي مما يؤخذ أصلاً لا كلاً ولا بعضاً، بل هي مما يترك ويطرح رأساً، ومع ضعفها محتملة للتأويل بخلاف النوع الثاني، أي أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط، فإنها صحيحة ثابتة محكمة في موادها، فيجب الأخذ بها على كل مسلم. وأما الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة فلم تثبت ولم يصح منها شيء، ولذلك لم نقل بالرفع في غير هذه المواضع. وأصل استدلال القائلين بالرفع ليس بهذه الأحاديث بل بالنوع الثاني، وهي محكمة في موادها ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضها. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن روايات الفعل متعارضة، ورواية القول سالمة من المعارضة، فتبقى حجة. وفيه ما تقدم آنفاً من أن دعوى التعارض باطلة لتوقفه على المساواة في القوة والضعف، وأحاديث الخصوم كلها ضعيفة لا تصلح للمعارضة، ولو تنزلنا وسلمنا قوتها وصحتها فلا تصلح للمعارضة أيضاً، فإن أحاديث الرفع أقوى وأصح وأكثر قد بلغت التواتر، وبعضها متفق عليه، فمعارضتها بأحاديث الترك وجعلها ساقطة بادعاء التعارض بلادة ظاهرة. وأما رواية القول يعني حديث جابر بن سمرة:"مالي أرى رافعي أيديكم" فقد حققنا بما لا مزيد عليه أنه لا ذكر فيها للرفع المتنازع فيه،