الأول: أن ينظر في هذا الأمر المُراد إحداثه لكونه مصلحة هل الْمُقتضي لفعله كان موجودًا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والمانعُ منتفيًا؟ ــــــ فإن كان كذلك ففعل هذه المصلحة - المزعومة - بدعة؛ إذ لو كانت خيرًا لسبقَ القومُ إليها؛ فإنَّهم بالله أعلَمُ وله أخشى وكلُّ خير فِي اتباعهم فعلًا وتركًا. ــــــ أما لو كان المُقتضي - أي: السبب المحوِجُ - غيرَ موجود في عهدهم أو كان موجودًا لكن هناك مانع يَمنع من اتِّخاذ هذه المصلحة فإنه لا يكون بدعة، بل يكون مصلحةً مرسلة؛ وذلك مثلُ جَمعِ القرآن فِي عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن المُقتضي لفعلهِ غيرُ موجود؛ إذ هو بين أظهُرهم لا يُخشى ذهابه ونسيانه، أما بعد موته فخُشِيَ ذلك؛ لأجلِ هذا جَمعَ الصحابة الكرامُ القرآن. ومن الأمثلة أيضًا: الأذان فِي مكبرات الصوت، وتسجيل المحاضرات فِي الأشرطة السمعية، وصلاة القيام فِي رمضان جَماعة؛ فكلُّ هذه الأمور كان يوجد مانع فِي عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فِعلها، أما الأمران الأوَّلان: فعدمُ إمكانهِ؛ لعدم وجودِها في زمانه، أما الأمر الثالث: فإنه ترك الفعل خشيةَ فرضهِ؛ وبعد موته لَمْ يكن ليُفرَضَ شيءٌ لم يكن مفروضًا من قبل. الثانِي: إن كان الْمُقتضي غير موجود فِي عهد النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فيُنظر فيه هل الداعي له عندنا بعض ذنوب العباد؟ فمثل هذا لا تُحدثُ له ما قد يسمِّيه صاحبه مصلحةً مرسلةً بل يؤمَرون بالرجوع إلى دين الله والتمسُّك به؛ إذ هذا المطلوب منهم فِعلُه، والمطلوب من غيرهم دعوتُهم إليه، ويُمثَّل لِهذا بتقديْم الخطبة على الصلاة في العيدين لأجلِ حبسِ الناسِ لسماعِ الذِّكرِ؛ فمثلُ هذا من البدَع المحدثة لا من المصالِح المرسلة. ودونكَ كلام الإمام الْمُحقق ابن تيمية فِي بيان هذا الضابط، قال في اقتضاء الصراط المستقيم (١/ ٢٧٨): والضابط فِي هذا - والله أعلم - أن يُقال: إنَّ الناس لا يُحدِثونَ شيئًا إلَّا لأنَّهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مفسدةً لَمْ يُحدثوه، فإنه لا يدعو إليه عقلٌ ولا دينٌ فما رآهُ الناسُ مصلحةً نُظِرَ فِي السبب المُحوِج إليه؛ فإن كان السببُ الْمُحوجُ أمرًا حدثَ بعد النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- من غير تفريط منَّا فهنا قد يَجوز إحداثُ ما تدعو الْحَاجة إليه، وكذلك إن كان المُقتضي لفعلهِ قائمًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن تركه النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لِمعارضٍ زالَ بِموته. وأمَّا ما لَمْ يَحدث سببٌ يُحوج إليه، أو كان السبب الْمُحوج إليه بعضُ ذنوب العباد فهنا لا يَجوز الإحداث؛ فكلُّ أمرٍ يكون الْمُقتضي لفعله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موجودًا لو كان مصلحةً ولَمْ يُفعل = يُعلم أنه ليس بِمصلحةٍ، وأمَّا ما حدثَ المُقتضي له بعد موتهِ من غير معصية الخلق فقد يكون مصلحة. ثم قال: «فأما ما كان المُقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحةً وهو مع هذا لَمْ يشرعه = فوضعهُ تغييرٌ لدين الله، وإنَّما دخل فيه من نُسِبَ إلَى تغيير الدِّين من الْمُلوك والعلماء والعبَّاد، أو من زلَّ منهم باجتهادٍ كما روي عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- وغير واحدٍ من الصحابة: «إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم: زلَّة عالِم وجدالُ منافقٍ بالقرآن وأئمةٌ مضلُّون». فمثال هذا القسم: الأذان فِي العيدين فإن هذا لمَّا أحدثه بعضُ الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعةٌ؛ فلو لَمْ يكن كونه بدعةً دليلًا على كراهيته وإلَّا لقيل: هذا ذِكرٌ لله ودعاءٌ للخلق إلَى عبادة الله، فيدخل فِي العمومات كقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}] الأحزاب: ٤١ [وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا _[فصلت: ٣٣]. ثُمَّ قال: ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريطٍ من الناس: تقديمُ الخطبة على الصلاة فِي العيدين؛ فإنه لمَّا فعله بعضُ الأمراء أنكره المُسلمون؛ لأنه بدعةٌ واعتذر مَنْ أحدَثهُ بأنَّ الناس قد صاروا ينفَضُّون قبل سَماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينفضُّون حَتَّى يسمعوا أو أكثرهم فيُقال له: سببُ هذا تفريطُكَ؛ فإنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كان يَخطبهم خطبةً يقصدُ بِها نفعَهُم وتبليغَهُم وهدايتهم، وأنت قصدُكَ إقامة رياستك، وإن قصدتَ صلاحَ دينهِم فلا تعلِّمهم ما ينفعهم؛ فهذه المعصية منك لا تُبيحُ لكَ إحداثَ معصيةٍ أخرى بل الطريقُ في ذلك أن تتوب إلَى الله وتتَّبعَ سنة نبيِّهِ، وقد استقامَ الأمر؛ وإنْ لَمْ يستقم فلا يسألكَ الله إلَّا عن عَملك لا عن عملهم؛ وهذان المعنيان من فَهِمَهُما انْحلَّ عنه كثيرٌ من شُبهِ البدَع الحادثة» اهـ.