قَالَ مُقَيِّدُهُ -عَفَا اللَّهُ عَنْهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لِي -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ تَدْعُهُ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ؛ فَالْأَوْلَى لَهُ أَلَّا يَأْخُذَ عِوَضًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِلْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ دَعَتْهُ الْحَاجَةُ أَخَذَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ بَيتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ المَأْخُوذَ مِنْ بَيتِ الْمَالِ مِنْ قَبِيلِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّعْلِيمِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأُجْرَةِ، وَالْأَوْلَى -لِمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ- أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ أَخْذِ شَيءٍ فِي مُقَابِلِ التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ وَالْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى" (١).
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ ﵀: "وَبِكُلِّ حَالٍ؛ فَحَالُ الْمُحْتَاجِ إلَيهِ لَيسَتْ كَحَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ، كَمَا قَالَ السَّلَفُ: كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ.
وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ: كَانَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيرِهِ، أَعْدَلُهَا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحْتَاجِ، قَالَ أَحْمَد: أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ خَيرٌ مِنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ، وَجَوَائِزُ السُّلْطَانِ خَيرٌ مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ.
وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ بَينَ الْمُحْتَاجِ وَغَيرِهِ كَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا أُبِيحَتِ المُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى سُؤَالِ النَّاسِ؛ فَالْمَسْأَلَةُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا! وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجِبُ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِالشُّبُهَاتِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو حَامِدٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إنَّ ابْنًا لِي مَاتَ وَعَلَيهِ دَينٌ وَلَهُ دُيُونٌ أَكْرَهُ تَقَاضِيهَا! فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد: أَتَدَعُ ذِمَّةَ ابْنِك مُرْتَهِنَةً؟! يَقُولُ: قَضَاءُ الدَّينِ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الشُّبْهَةِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمَأْمُورُ.
(١) أَضْوَاءُ البَيَانِ (٢/ ١٨٢).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute