للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - أَمَّا عَدَمُ مُنَافَاةِ العُلُوِّ لِلمَعِيَّةِ (١) كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحَدِيد: ٤]، وَقَولِهِ: ﴿وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا﴾ [المُجَادِلَة: ٤].

فَالجَوَابُ: أَنَّ الكَلَامَ فِي هَاتَينِ الآيَتِينِ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ مَا حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ؟

هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِهِم! أَو حَالًّا فِي أَمْكِنَتِهِم؟!

أَو يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهِم عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيرًا وَسُلْطَانًا وَغَيرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبيَّتِهِ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ؟

لَا رَيبَ أَنَّ القَولَ الأوَّلَ لَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المَعِيَّةَ هُنَا أُضِيفَتْ إِلَى اللهِ ﷿ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ! وَلِأَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ لَا تَسْتَلْزِمُ الاخْتِلَاطَ أَوِ المُصَاحَبَةَ فِي المَكَانِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ المُصَاحَبَةِ، ثُمَّ تُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَوضِعٍ بِحَسْبِهِ (٢).


(١) عِنْدَ مَنْ يَسْتَشْكِلُ كَونَهُ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ وَأَيضًا أَنَّهُ مَعَ عِبَادِهِ!
(٢) قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الحُلُولُ فِي المَكَانِ قَولُكَ: سِرْتُ مَعَ القَمَر، وَأَيضًا لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الاخْتِلَاطُ كَقَولِكَ: زَوجَتِي مَعِي.
قَالَ الإِمَامُ؛ حَافِظُ الأَنْدَلُسِ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ : "وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ ﷿: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا﴾ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حَمَلْتُ عَنْهُمُ التَّأْوِيلَ فِي القُرْآنِ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ: هُوَ عَلَى العَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ".
=

<<  <  ج: ص:  >  >>