المِشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، يعني جُلّ نظره الملاحظةُ، يسبق أصحابه، يبدر من لقيّ بالسلام.
قال: قلت: صِفْ لي منطقه، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، متواصلاً للأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلّم في غير حاجة، طويل السّكْتِ، يفتتح الكلام، ويختِمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فَضْلٌ لا فُضُولَ ولا تقصيرَ، دَمِثاً ليس بالجافي ولا المَهين، يعظم النّعمة وإن دقّت لا يذمّ منها شيئاً، لا يذم ذَوَاقاً ولا يمدحه، لا تُغضبه الدنيا وما كان لها فإذا تعوطي الحقَّ لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفّه كلّها وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جُلّ ضحكه التبسّم، ويفترّ عن مثل حَبّ الغمام.
قال: فكتمتها الحسين بن علي زماناً، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه ووجدته قد سأل أباه عن مُدخَله ومجلسه ومُخرجه وشكله فلم يَدَعْ منه شيئاً.
قال الحسين: سألت أبي عن دخول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس، فيسرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدّخر عنهم شيئاً، وكان من سيرته في جزء الأُمة إيثار أهل الفضل ناديَه وقَسْمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول: لِيُبْلِغ الشّاهِدُ الغائِبَ وَأبْلِغُوني حاجَةَ مَنْ لا يَستطيعُ إبْلاغي حاجَتَهُ، فَإنّهُ مَنْ أبْلَغَ سُلْطاناً حاجَةَ منْ لا يسْتَطيع إبْلاغَها إيّاهُ ثَبت الله قدَمَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. لا يُذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون رُوّاداً ولا يفترقون إلا عن ذَواق، ويخرجون أدلة.
قال: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه، فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يخزُن لسانه إلا ممّا يعينُهم ويُؤلّفهم ولا يفرقهم، أو قال ينفرهم، ويكرمِ كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذَر الناسَ ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بَشرَه ولا خُلْقَه، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويحسّن الحسن ويقويه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحقّ ولا يجوزه الدينُ، يلُونَه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة ومؤازرة.