(وأما قول السائل) -وفقه الله لفهم المسائل-: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر يحيى بن هبيرة صاحب "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ فإنه ذكر نحوا من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز، فإن كلامه يأبى ذلك؛ وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه، كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين.
وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدا على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فيجوز تولية المقلد لأهلها، وينفذ قضاؤه.
وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة؛ بحيث أنْ يُلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلده كما قد يتوهم؛ بل كلامه يخالف ذلك ولا يوافقه.
وعبارته في "الإفصاح": اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال:"يجوز ذلك".
ثم قال: والصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه -إنما عنى به- ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.