للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكل من بلغه القرآن: فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار -التي هي أصل دين الإسلام- قد بَيَّنَهَا الله في كتابه، ووضحها وأقام بها الحجة على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فَهْمًا جَلِيًّا كما يفهمها مَن هداه الله، ووفَّقه وانقاد لأمره ١. فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أَكِنَّة أن يفهموا كلامه، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} ٢ وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} ٣ وقال تعالى: {نَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ٤ وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ٥ والآيات في هذا المعني كثيرة. يخبر -سبحانه- أنهم لم يفهموا القرآن، ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بجعل


١ هذا القيد الذي قيَّد الشيخ به الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، واتبعه فيه بعضُ علماء نجد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن، وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا. وهذا لا يُعْقَلُ ولا يَتفق مع قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} الآية. الذي بنى عليه المحققون قولهم: إن فهم الدعوة بدليلها شرط لقيام الحجة. وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لا يشترطه الشيخ، هو فقه نصوص القرآن المؤثر في النفس، الحامل لها على ترك الباطل، كما يفقهها من اهتدى بها. ففهم التفقه في الحقيقة أخص من فهم المعنى اللغوي، كما يدل عليه استعمال القرآن، وحديث "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" متفق عليه، وفي رواية حسنة زيادة "ويلهمه رشده". والمشركون الذين شبههم الله بالصم البكم المختوم على قلوبهم، والمطبوع عليها، والمجعول عليها الأكنة: كلهم قد فهموا مدلول آيات القرآن في التوحيد والبعث والرسالة؛ لأنهم أهل اللغة وقد أنزلت بأفصح أساليبها؛ ولكنهم لم يهتدوا بها لثلاثة أسباب: "أحدها" العناد من الرؤساء. "ثانيها" التقليد من الدهماء. "ثالثها" الشبهات على الأصول الثلاثة، كزعمهم أن دعاء غير الله لا يضر إذا كان بقصد التقريب إليه تعالى والشفاعة عنده. وأن الرسول بشر مثلهم؛ فلا يعقل أن يكون رسولا من الله، وأنه تعالى لو أراد أن يبعث رسولا؛ لبعث ملكا، أو لأيَّدَهُ بملك يكون معه نذيرًا. وأن البعث لا يُعْقَلُ.
٢ سورة الأنعام آية: ٢٥.
٣ سورة فصلت آية: ٤٤.
٤ سورة الأعراف آية: ٣٠.
٥ سورة الكهف آية: ١٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>