عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ] وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ لَهُ فِي الْأَرْضِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ لَسَالَ كُلُّهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَلَفُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا لِعَدَمِهِ الْمَاءَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ السَّمَاءَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْفِ وَجَعَلَ سَائِرَ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْقُلُهُ الْإِنْسَانُ إلَى بَيْتِهِ لِمَصَالِحِهِ ثُمَّ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ لَنَا وَذَلَّلَهَا لِلْمَشْيِ عَلَيْهَا وَسُلُوكِ طُرُقِهَا وَمَكَّنَنَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي بِنَاءِ الْبُيُوتِ والدور ليسكن مِنْ الْمَطَرِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَتَحَصُّنًا مِنْ الْأَعْدَاءِ لَمْ تُخْرِجْنَا إلَى غَيْرِهَا فَأَيَّ مَوْضِعٍ مِنْهَا أَرَدْنَا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي إنْشَاءِ الْأَبْنِيَةِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْجِصِّ وَالطِّينِ وَمِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ أَمْكَنَنَا ذلك وسهل علينا سوى ما أودعهما مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي عَقَدَ بِهَا مَنَافِعَنَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كما قال تعالى [وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها] فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَلَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ أَعْمَارِنَا وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً جَعَلَهَا كِفَاتًا لَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا جَعَلَهَا فِي الْحَيَاةِ فقال تعالى [أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً] وَقَالَ تَعَالَى [إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً] ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيمَا خَلَقَ مِنْ النَّبَاتِ والحيوان على الملذ دون المألم وَلَا عَلَى الْغِذَاءِ دُونَ السُّمِّ وَلَا عَلَى الْحُلْوِ دُونَ الْمُرِّ بَلْ مَزَجَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِيُشْعِرَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ مِنَّا الرُّكُونَ إلَى هذه اللذات ولئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بِهَا عَنْ دَارِ الْآخِرَةِ الَّتِي خُلِقْنَا لَهَا فَكَانَ النَّفْعُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ فِي الذَّوَاتِ الْمُؤْلِمَةِ الْمُؤْذِيَةِ كَهُوَ فِي الْمَلَذَّةِ السَّارَّةِ وَلِيُشْعِرَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَيْفِيَّةِ الْآلَامِ لِيَصِحَّ الْوَعِيدُ بآلام الآخرة ولنزجر عَنْ الْقَبَائِحِ فَنَسْتَحِقَّ النَّعِيمَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ وَلَا تَنْغِيصٌ فَلَوْ اقْتَصَرَ الْعَاقِلُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ كَافِيًا شَافِيًا فِي إثْبَاتِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُلْحِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ وَمِنْ الثَّنَوِيَّةِ وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّشْبِيهِ وَلَوْ بَسَطْت مَعْنَى الْآيَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ضُرُوبِ الدَّلَائِلِ لَطَالَ وَكَثُرَ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ كَانَ الْغَرَضُ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مُقْتَضَى دَلَالَةِ الْآيَةِ بِوَجِيزٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ الِاسْتِقْصَاءِ وَاَللَّهَ نَسْأَلُ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِدَلَائِلِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهُدَاهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ ونعم الوكيل.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute