للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِثْلُ قَوْلِهِ [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ] فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ فِعْلَ الظُّلْمِ لِأَنَّهُ لَوْ فعله لكان مريدا له لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُرِيدُ وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِكَوْنِ الْفِعْلِ هِيَ إرَادَتَهُ له أنه غير جائز أن يجب كَوْنَهُ وَلَا يُرِيدَ أَنْ يَكُونَ بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ وَهَذَا هُوَ التَّنَاقُضُ كَمَا لَوْ قَالَ يُرِيدُ الْفِعْلَ وَيَكْرَهُهُ لَكَانَ مُنَاقِضًا مُخْتَلًّا فِي كَلَامِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ] وَالْمَعْنَى إنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلَاثًا وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ وَكَرِهَ لَكُمْ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)

فَجَعَلَ الْكَرَاهَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ فَدَلَّ أَنَّ مَا أَرَادَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ كَمَا أَنَّ مَا كَرِهَهُ فَلَمْ يُرِدْهُ إذْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِرَادَةِ كَمَا هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ فَلَمَّا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ نَقِيضًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ

قَوْله تَعَالَى [فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] فَإِنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْمَنِيعُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يمنع ولا يَمْنَعَ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِزَّةِ الِامْتِنَاعُ وَمِنْهُ يُقَالُ أَرْضٌ عَزَازٌ إذَا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً بِالشِّدَّةِ وَالصُّعُوبَةِ وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تعالى على معنيين أحدهما العالم إذا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَزَلْ حَكِيمًا وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ الْفِعْل الْمُتْقَن الْمُحْكَمِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَزَلْ حَكِيمًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا فَوَصْفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ وَالسَّفَهَ وَالْقَبَائِحَ وَلَا يُرِيدُهَا لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ

وقَوْله تَعَالَى [هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ] هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِرَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ فِي قَوْلِهِ [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ]

وَإِنَّمَا كَانَ مُتَشَابِهًا لِاحْتِمَالِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَإِتْيَانُ اللَّهِ وَاحْتِمَالُهُ أَنْ يُرِيدَ أَمْرَ اللَّهِ وَدَلِيلَ آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ [هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ] فَجَمِيعُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا بينه في قوله [أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ] لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ وَلَا الْمَجِيءُ وَلَا الِانْتِقَالُ وَلَا الزَّوَالُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَدَلَالَاتِ الْحَدَثِ وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ مُحْكَمَةٍ [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] وَجَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا شَهِدَهُ مِنْ حركات النجوم وانتقالها

<<  <  ج: ص:  >  >>