بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قيل في الحرج هاهنا إنَّهُ الشَّكُّ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ وَلَا ضِيقِ صَدْرٍ بِهِ بَلْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَلَّا كَانَ أَمْرُ الرَّسُولِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ لَهُ إنَّمَا كَانَتْ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهَا إرَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَامِرَهُ وَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أمرا وأحد الآمرين كَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ قَائِلَيْنِ وَلَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلَيْنِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً قِيلَ الثُّبَاتُ الْجَمَاعَاتُ وَاحِدُهَا ثُبَةٌ وَقِيلَ الثُّبَةُ عُصْبَةٌ مُنْفَرِدَةٌ مِنْ عُصَبٍ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ ينفروا فرقة بعد فِرْقَةٌ فِي جِهَةٍ وَفِرْقَةٌ فِي جِهَةٍ أَوْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وقَوْله تعالى خُذُوا حِذْرَكُمْ مَعْنَاهُ خُذُوا سِلَاحَكُمْ فَسَمَّى السِّلَاحَ حِذْرًا لِأَنَّهُ يُتَّقَى بِهِ الْحَذَرُ وَيَحْتَمِلُ احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ بِأَخْذِ سلاحكم كقوله تعالى وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ عَلَى حَالِ افْتِرَاقِ الْعُصَبِ أَوْ اجْتِمَاعِهَا بِمَا هُوَ أَوْلَى فِي التَّدْبِيرِ وَالنُّفُورُ هُوَ الْفَزَعُ نَفَرَ يَنْفِرُ نُفُورًا إذَا فَزِعَ وَنَفَرَ إلَيْهِ إذَا فَزِعَ مِنْ أَمْرٍ إلَيْهِ وَالْمَعْنَى انْفِرُوا إلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَالنَّفَرُ جَمَاعَةٌ تَفْزَعُ إلَى مِثْلِهَا وَالنَّفِيرُ إلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ وَالْمُنَافَرَةُ الْمُحَاكَمَةُ لِلْفَزَعِ إلَيْهَا فِيمَا يَنُوبُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَهَا أَنَّهُمْ كانوا يسئلون الْحَاكِمَ أَيُّنَا أَعَزُّ نَفَرًا وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخٌ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تعالى فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً قَالَ عُصَبًا وَفِرَقًا وَقَالَ فِي بَرَاءَةٍ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا الْآيَةَ وَقَالَ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً الْآيَةَ قَالَ فَنَسَخَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْله تَعَالَى وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ وتمكث
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute