فَرْقَ بَيْنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ وَبَيْنَهُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ مَعَهُمْ وَيَعْمَلُ بِمَا يَغْلِبُ فِي رَأْيِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْمُشَاوَرَةِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَلَوْ كَانَ فِيمَا شَاوَرَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ قَدْ وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهِ مِنْ اللَّهِ لَكَانَتْ العزيمة فيه متقدمة للمشاورة إذ كان ورد النَّصِّ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ وَفِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا
قَوْله تَعَالَى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قُرِئَ يَغُلَّ بِرَفْعِ الْيَاءِ وَمَعْنَاهُ يُخَانُ وَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ خِيَانَةُ سَائِرِ النَّاسِ مَحْظُورَةً تَعْظِيمًا لِأَمْرِ خِيَانَتِهِ عَلَى خِيَانَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ وَإِنْ كَانَ الرِّجْسُ كُلُّهُ مَحْظُورًا وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهِ وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ الْحَسَنِ وَقَالَ ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى يَغُلَّ بِرَفْعِ الْيَاءِ إنَّ مَعْنَاهُ يُخَوَّنُ فَيُنْسَبُ إلَى الْخِيَانَةِ وَقَالَ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ومن قرأ يَغُلَّ ينصب الْيَاءِ مَعْنَاهُ يَخُونُ وَالْغُلُولُ الْخِيَانَةُ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ الْإِطْلَاقُ فِيهَا يُفِيدُ الْخِيَانَةَ فِي الْمَغْنَمِ وَقَدْ عَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْغُلُولِ حَتَّى أَجْرَاهُ مَجْرَى الْكَبَائِرِ
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عليه كساء أو عباءة قد غلها وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالْأَخْبَارُ فِي أَمْرِ تَغْلِيظِ الْغُلُولِ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَأَخْذِ عَلَفِ الدَّوَابِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْتِي فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ المداين أَرْغِفَةً حُوَّارَى وَجُبْنًا وَسِكِّينًا فَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنْ الْجُبْنَةِ وَيَقُولُ كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ
وَقَدْ رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَحِلُّ لأحد يؤمن
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute