مَقْبُولَةٌ مَا بَقِيَ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ فَأَمَّا مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ مَظَالِمُهُ وَمُوبِقَاتُهُ فَأَعْرَضَ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ رُبَّ مَسِيرٍ لَك فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا مَسِيرِي إلَى أَبِيك فَلَا فَقَالَ الْحَسَنُ بَلَى وَلَكِنَّك اتَّبَعْت مُعَاوِيَةَ عَلَى عَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرٍ وَاَللَّهِ لَئِنْ قَامَ بِك معاوية في دنياك لقد قَعَدَ بِك فِي دِينِك وَلَوْ كُنْت إذْ فَعَلْت شَرًّا قُلْت خَيْرًا كُنْت مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أن يتوب عليهم وَلَكِنَّك أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يكسبون
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسِوَارِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ توبتهم وقيل سَبْعَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ
قَوْله تَعَالَى خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ظَاهِرُهُ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ فَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونَ الكناية جَمِيعًا لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَوْلُهُ مَا تَرَكَ عَلَى ظهرها من دابة وَهُوَ يَعْنِي الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ يَعْنِي الشَّمْسَ فَكَنَّى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهَا مُظْهَرَةً فِي الْخِطَابِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلُهُ تطهرهم وتزكيهم بها يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخِطَابِ مِنْ الْمُعْتَرِفِينَ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ دَلَالَتَهُ ظَاهِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فِي شَخْصٍ أَوْ عَلَى شَخْصٍ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَذَلِكَ الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فِيهِ وقَوْله تَعَالَى تُطَهِّرُهُمْ يَعْنِي إزَالَةَ نَجَسِ الذُّنُوبِ بِمَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْكُفْرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِنَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ أَطْلَقَ فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِزَالَتِهِ اسْمَ التَّطْهِيرِ كَتَطْهِيرِ نَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ بِإِزَالَتِهَا وَكَذَلِكَ حُكْمُ الذُّنُوبِ فِي إطْلَاقِ اسْمِ النَّجَسِ عَلَيْهَا وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَى إزَالَتِهَا بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute