[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فقد انتظم قوله [شَهْرُ رَمَضانَ] نَسْخَ حُكْمَيْنِ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَحَدُهُمَا الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْآخَرُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي قَوْلِهِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ السَّلَفِ وإن كان قوله [شَهْرُ رَمَضانَ] بيانا لقوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] فَقَدْ كَانَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ التَّخْيِيرُ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ إيجَابِهِ فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِاسْتِفَاضَةِ الرِّوَايَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَإِنْ قِيلَ فِي فَحْوَى الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أن المراد بقوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ وَلَوْ كان قوله [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ] فَرْضًا مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْفَرْضِ مَعْنَى قِيلَ لَهُ لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ فَرْضٍ مُجْمَلًا مُضَمَّنًا بِحُكْمٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى مَوْقُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمَا أُرِيدَ مِنْهُ كَانَ الْحُكْمُ الْمُضَمَّنُ بِهِ ثَابِتًا مَعَهُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ حُكْمُهَا إذَا بُيِّنَ وَقْتُهَا وَمِقْدَارُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ] فَاسْمُ الْأَمْوَالِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا عَلِقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ وَالصَّدَقَةُ مُجْمَلَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْبَيَانِ فَإِذَا وَرَدَ بَيَانُ الصَّدَقَةِ كَانَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اسْمِ الْأَمْوَالِ سَائِغًا فِيهَا وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ] مُتَأَخِّرًا فِي التَّنْزِيلِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي التِّلَاوَةِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَاتِ وَتَرْتِيبُ مَعَانِيهَا أَيَّامًا معدودات هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ] فَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] فَنُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] مُؤَخَّرًا
فِي اللَّفْظِ وَكَانَ ذَلِكَ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي التَّنْزِيلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَذْكُورٌ مَعًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ- إلى قوله- شَهْرُ رَمَضانَ]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute