إنَّ إيتَاءَ اللَّهِ الْمُلْكَ لِلْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَاتِّسَاعِ الْحَالِ وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْمُلْكِ جَائِزٌ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ وَأَمَّا الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَدْبِيرُ أُمُورِ النَّاسِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَزَوَاجِرَهُ إنَّمَا هِيَ اسْتِصْلَاحٌ لِلْخَلْقِ فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِصْلَاحُهُمْ بِمَنْ هُوَ عَلَى الْفَسَادِ مُجَانِبٌ لِلصَّلَاحِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمِنَ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَلَى أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأُمُورِ دِينِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَكَانَتْ مُحَاجَّةُ الْمَلِكِ الْكَافِرِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وهو النمروذ بْنُ كَنْعَانَ أَنَّهُ دَعَاهُ إلَى اتِّبَاعِهِ وَحَاجَّهُ بِأَنَّهُ مَلِكٌ يَقْدِرُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَعَدَلَ عَنْ مَوْضِعِ احْتِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى مُعَارَضَتِهِ بِالْإِشْرَاكِ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ حَقِيقَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاجَّهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِرَاعِ فَجَاءَ الْكَافِرُ بِرَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَقَالَ قَدْ أَمَتُّهُ وَخَلَّى الْآخَرَ وَقَالَ قَدْ أَحْيَيْته عَلَى سَبِيلِ مَجَازِ الْكَلَامِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اخْتِرَاعِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فَلَمَّا قَرَّرَ عليه الحاجة وَعَجَزَ الْكَافِرُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَوْرَدَ زاده حجاجا لا يمكنه مع مُعَارَضَتُهُ وَلَا إيرَادُ شُبْهَةٍ يُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ وَقَدْ كَانَ الْكَافِرُ عَالِمًا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ لَكِنَّهُ أَرَادَ التَّمْوِيهَ عَلَى أَغْمَارِ أَصْحَابِهِ كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتْ السَّحَرَةُ عِنْدَ إلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَصَا وتلقفها جميع ما لقوا مِنْ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ التَّمْوِيهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا يَعْنِي تَوَاطَأْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ مُوسَى قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى إذَا اجْتَمَعْتُمْ أَظْهَرْتُمْ الْعَجْزَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا مَوَّهَ بِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَدَعْهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا رَامَ حَتَّى أَتَاهُ بِمَا لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ بِحَالٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ فَقَالَ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَانْقَطَعَ وَبُهِتَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَلْجَأَ إلَى مُعَارَضَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ وَفِي حِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلام بهذا اللطف دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ بُرْهَانٍ لِمَنْ عَرَفَ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute