لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ لِحَالِ السَّفَرِ بِذِكْرِ الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهَا عَدَمُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ وَهَذَا كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ
لَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْمَخَاضِ وَاللَّبَنِ بِالْأُمِّ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ مِنْ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ لَا يَكُونَ بِأُمِّهَا مَخَاضٌ وَلَا لَبَنٌ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ السَّفَرِ هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ
وَالْمُرَادُ اسْتِحْكَامُهُ وَجَفَافُهُ لَا حُصُولُهُ فِي الْجَرِينِ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِهِ وَجَفَافِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ قُطِعَ فِيهِ فَكَانَ ذِكْرُ الْجَرِينِ عَلَى الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ مِنْ حَالِهِ فِي اسْتِحْكَامِهِ فَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ لِحَالِ السَّفَرِ هُوَ عَلَى هذا المعنى وقوله فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فَلَمَّا كَانَ اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِلشُّهُودِ وَاجِبًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الصِّفَةِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَيْهَا كَمَا لَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ إلَّا عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ إذْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ وَالْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ وَالْآيَةُ إنَّمَا أَجَازَتْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إجَازَتُهُ عَلَى غَيْرِهَا إذْ لَيْسَ هاهنا أَصْلٌ آخَرُ يُوجِبُ جَوَازَ الرَّهْنِ غَيْرُ الْآيَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مَقْبُوضًا أنه معلوم أنه وثيقة لمرتهن بِدَيْنِهِ وَلَوْ صَحَّ غَيْرَ مَقْبُوضٍ لَبَطَلَ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِ الرَّاهِنِ الَّتِي لَا وَثِيقَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ وَثِيقَةً لَهُ لِيَكُونَ مَحْبُوسًا فِي يَدِهِ بِدَيْنِهِ فَيَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْإِفْلَاسِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَانَ لَغْوًا لَا مَعْنَى فِيهِ وَهُوَ وَسَائِرُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا يَكُونُ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ مَا دَامَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ هُوَ سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ وَكَانَ هُوَ وَسَائِرُ الْغُرَمَاءِ سَوَاءً فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِالْقَبْضِ وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِيهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَحُكِمَ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى إقْرَارِ الْمُصَدَّقِ بِالْقَبْضِ حَتَّى يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ فَقِيلَ إنَّ الْقِيَاسَ قَوْلُهُ فِي الرَّهْنِ كَذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِقَبْضِ الرَّهْنِ اتِّفَاقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute