وأقبل أبي بن خلف الجمحيّ على النبي عليه الصلاة والسلام- وكان قد حلف أن يقتله- وأيقن أنّ الفرصة سانحة، فجاء يقول: يا كذّاب أين تفر! وحمل على الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بل أنا قاتله إن شاء الله» ، وطعنه في جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات «١» .
ومضى النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين إليه، واستطاع- بالرجال القلائل الذين معه- أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار.
وفرح النبي عليه الصلاة والسلام أن وجد بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حيا وهم يحسبونه مات.
ويبدو أن إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم سرت على أفواه كثيرة، فقد مرّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم، وانكسرت نفوسهم، فقال: ما تنتظرون؟.
قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: وما تصنعون بالحياة بعده؟.
قوموا فموتوا على ما مات عليه ... ثم استقبل المشركين، فما زال يقاتلهم حتى قتل ...
ولم تتوان قريش من جانبها في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن انحاز إليه من أصحابه بغية الإجهاز عليه وعليهم، ومرّت ساعة عصيبة من أحرج الساعات في تاريخ الدنيا، وفرسان المشركين ورماتهم يحملون- بعناد وإلحاح- لتحقيق أمنيتهم، فقتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وهم ينافحون دونه، جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، ثم سقط بين حي وميت، وترّس عليه أبو دجانة بظهره، فكان النبل يقع فيه وهو لا يتحرك.
روى مسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون قال:«من يردّهم عنّي وله الجنّة؟» فتقدّم رجل
(١) هو من حديث السدي المتقدم، وقال ابن كثير: إنه غريب جدا وفيه نكارة لكن هذا القدر؛ وهو قصة قتله صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف له شاهد من رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير، ومن رواية الزهري عن سعيد بن المسيّب، كما في (البداية) : ٤/ ٣٢، وكلاهما مرسل.