للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال المفسّرون: خوطبت الأمة في شخص رسولها كما تصدر الأوامر إلى القائد، مع أنّ الجند هم المنفّذون.

وقيل: بل الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام على طريق الإهاجة واستثارة الهمّة، يقال للقوي البادي العزم: لا تهن، وللعاقل الصحيح الذهن: لا تغافل، وليس يخاف عليهما وهن ولا غفلة، ولكن الأمر تحريض على استدامة القوة والذكاء، والشجاع يزداد على الموت إقبالا إذا قيل له: لا تجبن.

وسواء كان هذا أم ذاك فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام مناط الأسوة الحسنة، ومن سلوكه يأخذ الناس مثلهم الأعلى، وقد أمر وأمرنا معه بالتوجس من الضالين، والتنائي عن خلقهم وعملهم، وازدراء متاعهم وغرورهم؛ وذلك لأن هناك أحيانا شتى يضعف فيها الحقّ، ويعزّ التمسّك به، ويقوى فيها الباطل، وتكثر المغريات على مصادقته، أو مهادنته.

ومن حقّ العقائد على أصحابها أن يتشدّدوا في تدعيم جانبها، وأن يتنكّروا لما يمسّها من بعيد.

والأوامر التي تنظّم هذه المشاعر لن تنقصها الصّرامة، وماذا بعد أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) [الزمر] .

إن هذا الخطاب يقرع اذاننا، وله مغزاه، كما قيل: «إياك أعني واسمعي يا جارة» «١» ، وقد كان لهذا الأسلوب أثره في تأليب المسلمين على الفساد، وترهيبهم من الرّكون إليه، بله الوقوع فيه.

وأقوال المفسّرين التي سردناها تنطبق أيضا على الاية: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: ٩٤] .

الخطاب للقارئ، أو السامع، أو للرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على جهة التهييج والتحريض كما علمت: إذ إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لن يقع


(١) مثل يضرب للتعريف بالشيء يبديه الرجل، وهو يريد غيره، وأول من قاله سهل بن مالك الفزاري في أخت حارثة بن لأم الطائي:
يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرّة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جاره
انظر: الأمثال، لأبي عبيد الميداني: ١/ ٤٩. (ن) .

<<  <   >  >>