للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك سرّ تضييقه على الرواة المكثرين!.

لقد روى ابن حزم قرابة ألف صفحة من الأحاديث في الوضوء، ولمن شاء أن يتوفر على هذا اللون من العلم، لكن شغل عامة المسلمين به حمق! فماذا يبقى بعدئذ للقران نفسه؟! بل إن شغل المسلمين بالقران على هذا النحو ليس من الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القران، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به» «١» .

وإن يكن لهؤلاء الحفّاظ فضل فلأنهم حملوا العلم إلى من يحسن الإفادة منه. على نحو ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ربّ حامل فقه ليس بفقيه، ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» «٢» ، عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال له: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت:

بالحديث الذي حدثتني أنت! ثم حدّثته! فقال لي: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك، ما عرفت تأويله إلا الان!!.

وقد يبصر أبو يوسف «٣» الفقيه ما يغيب عن الأعمش «٤» الحافظ، ولكن المحذور ليس في الحفظ بلا فهم، بل أن يفهم الأمر على غير وجهه.

والترتيب الفني للسنن- كما دوّنت وتلقيناها- يجعل ما ورد في الإيمان بابا، وما ورد في القضاء بابا ... وهكذا ...

ولما كان الإسلام جملة هذه الحقائق، فإنّ السنّة أصبحت كمتجر كبير للملابس وزعت فيه أنواعها على مختلف الجوانب، هنا أغطية الرأس، وهنا سراويل، وهنا قمصان، وهنا حلل سابغة ... إلخ.

والطبيعي أن من يريد كسوة كاملة يمرّ بهذه الجوانب كلها ليأخذ ما يغطيه


(١) حديث صحيح، أخرجه أحمد: ٣/ ٤٢٨- ٤٤٤؛ والطحاوي في شرح معاني الاثار: ٢/ ١٠، من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعا، وسنده صحيح، وقوّاه الحافظ في الفتح: ٩/ ٨٢.
(٢) حديث صحيح، رواه ابن عبد البر: ١/ ٣٩؛ وكذا أصحاب السنن، والدارمي، وأحمد في حديث لزيد بن ثابت، وسنده صحيح، وصحّحه ابن حبان، وابن حجر وغيرهم.
(٣) هو يعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف القاضي، قاضي الرشيد، وأجلّ تلاميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، توفي سنة (١٨٢ هـ) ، له كتاب (الخراج) ، و (الاثار) . مقدمة الخراج. (ن) .
(٤) هو أبو محمد سليمان بن مهران الكاهلي، أحد الأئمة الأعلام، توفي سنة (١٤٨ هـ) . الكاشف: ١/ ٤٦٤. (ن) .

<<  <   >  >>