للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النبيّ صلى الله عليه وسلم نافذة تطلّ على بحبوحة الحياة الرغدة، لاستمتاع واكتنز، واستمتاع نسوته وابتهجن.

لا، كان قادرا أن يحتجز من المال الذي يمر به ويحكم فيه ما يشاء، لو يشاء، لكنّ هذا النبي السمح صلى الله عليه وسلم كان فوق التطلع إلى اللذات الصغيرة؛ لأن عينيه ترمقان هدفا أسمى، ولو سيقت إليه خزائن الأرض لفكّر- قبل كلّ شيء- في إشباع نهمة الناس منها.

عن أبي ذر: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: «يا أبا ذر» ، قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد ذهبا، تمضي عليّ ثالثة وعندي منه دينار- إلا شيئا أرصده لدين- إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا» ، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه.

ثم مشى فقال: «إنّ الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال، هكذا وهكذا وهكذا- عن يمينه وعن شماله ومن خلفه- وقليل ما هم» «١» .

إنّ أشهى الطعام في فم الرجل الشبعان الممتلئ لا مذاق له، وقد كان هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم شبعان القلب، فما يخفّ إليه غيره من زينة الدينا لا يحرّك منه شعرة، فلا غرو إذا بعثر ما يصل إليه على المحتاجين والمترقبين، أما هو فغناه في قلبه.

ذاك أدب أخذه الله به من قديم، منذ قال له:

وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) [طه] .

غاية ما يبغيه هذا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينجو من ماسي الدنيا ومظالم البشر، فلا تستذله أو تستذل أهله فاقة!.

إنّه يعيش على قاعدة: «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» «٢» ، وفي حدود


(١) صحيح، أخرجه البخاري: ١١/ ٢٢٠- ٢٢٢؛ ومسلم: ٣/ ٧٥، عن أبي ذر.
(٢) هذا حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، فكان ينبغي التصريح بذلك، أخرجه أحمد: ٥/ ١٩٧، وكذا الطيالسي، رقم (٩٧٩) في حديث لأبي الدرداء. وسنده صحيح على شرط مسلم؛ وعزاه المنذري: ٢/ ٣٩، لابن حبان في صحيحه والحاكم؛ ورواه أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري، وكذا الضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) ، والطبراني من حديث أبي أمامة.

<<  <   >  >>