فإذا لم يعش بيته عيشة المجاهد المحصور، فكيف يواصل الكفاح، ويكلف الرجال والنساء من أمته أن يذهلوا عن كل شيء إلا السير بدينهم حتى يبلغ مأمنه؟!.
لذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة لرغبات نسائه في توسيع النفقة، وكره منهنّ هذا التطلّع، فقرر مقاطعتهن، حتى شاع بين الناس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طلّق نساءه جملة!.
وفزع أبو بكر وعمر لهذه الإشاعة فابنة كليهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبا يستأذنان ليدخلا عليه، وليتعرفا جلية الخبر، فلمّا دخلا وجدا النبيّ صلى الله عليه وسلم صامتا، وحوله نساؤه واجمات!! وسأله عمر: أطلّقت نساءك يا رسول الله؟ قال:«لا» .
إلا أنّ جوّ الحزن كان يخيّم على المكان، فقال عمر: لأكلمنّ رسول الله لعلّه يضحك.
فقال: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد- يعني زوجته- سألتني النفقة انفا فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال:«هنّ حولي يسألنني النفقة» . فقام أبو بكر إلى عائشة يؤدّبها، وقام عمر إلى حفصة.
كلاهما يقول: تسألن النبيّ ما ليس عنده؟!.
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الأبوين أن يصنعا ببنتيهما شيئا. وكانت نساؤه- نادمات- يقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده.
وهجرهنّ النبي صلى الله عليه وسلم شهرا، لا يتصل بهن، حتى يشعرن بما فعلن، ونزلت ايات التخيير من عند الله تطلب إليهنّ جميعا إمّا التجرّد للدار الاخرة مع رسول هذه طريقته في حياته، وإما اللحاق بأهلهنّ حيث الملابس الحسنة والماكل الدسمة.
وكان هذا الدرس كافيا ليمحو اخر ما في أنفسهنّ من رغبة لم تتجاوز المباحات المشتهاة، فاخترن- جميعا- البقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم على قاعدته العتيدة:
«ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى»«١» ، وعشن معه للجهاد والتهجد، والبذل والمواساة، والتواضع والخدمة: