للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حَذْفُ الجُمَلة

الحذف ضَرْب من ضروب الإيجاز والاختصار، وهو باب طريف حسن، لطيف المأخذ، فإنَّك ترى في الحذف من اللُّطف والظُّرف ما هو أبلغ من الذِّكر، وفي الصَّمت ما هو أدلّ على المعنى المراد من النُّطق.

ويكون المحذوف حرفاً، أو مفردة، أو جملةً، أو جملاً، ومن شرطه أن يكون في اللَّفظ قرينةٌ دالَّة عليه، فليس شيء من ذلك إلَّا عن دليل عليه، ومن فوائده حملُ السَّامع على إعمال الذِّهن في المحذوف، فتتلذَّذ نفسه بتشوّفها إلى المراد، ومن فوائده التَّعبيرُ عن المعاني الغزيرة بالمباني القليلة، ممَّا يجعل الكلام يعظم شأنُه في القلب، ويعلو قدره في النَّفس.

ومن شواهد حذف الجمل في التَّنزيل من سُورة يُوسُفَ، قوله تعالى: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ... (٤٦)} فالكلام فيه حذف، والتَّقدير: فأرسَلوه، فأتى يُوسُفَ، فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} والمحذوف ظاهر؛ لأنَّه إذا ثبت طرفا الكلام وحُذِفَ وسطه ظهر المحذوف لدلالة طرفيه عليه.

وقد حُذِف حرف النّداء أيضاً، فالتَّقدير، فقال: "يا يوسف يا أيُّها الصِّدِّيق" ولعلَّه حُذِفَ للتَّخفيف لكثرة دورانه في الكلام، وللبُعدِ عن الإطالة والسَّآمة.

ومن شواهد الحذف أنَّ يُوسُفَ بعد أنْ عبَّر للرَّسول الرُّؤيا، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} فهناك حذِف جمل بيّن، والتَّقدير: فلمَّا رجع الرَّسول إلى الملك وأخبره بفتيا يُوسُفَ وتعبيره، أُعْجِب بتأويله، فطلب أن يأتوه به {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} حذف آخر، تقديره: وقال له: أجب الملك {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ... (٥١)} حذف آخر، فالتَّقدير: فرجع الرَّسُولُ إلى الملك، فأخبره

<<  <   >  >>