{قال} ـ - عليه السلام - ـ بلسان يبعثُ الثِّقةَ والطُّمأنينَةَ في النُّفوس:{لَا يَأْتِيكُمَا} ولا يحمل إليكما {طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وأخبرتكما بحقيقته وماهيته {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} تأويله، وقبل أن يصل إليكما ويقع مصداقه. ونراه لم يُسْرع في الإجابة؛ وكأنَّه يريد أن يُثْبِتَ لهما كفاءته ـ - عليه السلام - ـ، فقدَّم ما هو معجز من الإخبار عن الغيب ليهديهما إلى صدقه في دعوته لهما إلى التَّوحيد.
{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} تبارك وتعالى، وفي هذا تعريضٌ وتلميحٌ إلى طلب الإيمان منهما، ونفيٌ للفضل عن نفسِه، وعدم ادِّعاء الفقه ولا الخصوصيَّة، وفيه ردٌّ للفضل لصاحب الفضل، وفيه تأنيس لهما، وتحبُّب إليهما، وهذا من أدب الأنبياء والصَّالحين.
يُوسُفُ يُمَهِّدُ للدّعوة إلى التَّوحيد
وافْتَرَصَ ـ - عليه السلام - ـ الفرصة، فوعظهما تمهيداً لدعوتهما للتَّوحيد، قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧)} فهذا العلم الَّذي وهبني تعالى إيَّاه كان ثواباً على تركي ملَّة من لا يؤمنون بالله تعالى ولا بيوم الحساب، واتِّباعي ملَّة آبائي الأنبياء الموحِّدين.
والترك هنا بمعنى الامتناع دون سابق مزاولة لا تركاً بعد الملابسة، ويؤكِّد هذا قوله الآتي:{مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وإنَّما عبَّر بهذه الكلمة {تَرَكْتُ} تحريضاً لهما لأن يتركا تلك الملَّة التي هم عليها، ولتقوى رغبتهما في سماعه واتِّباع ملَّته.
وقد نبَّه ـ - عليه السلام - ـ في كلامه إلى أصلين عظيمين: الإيمان بالله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، إذ هما أعظم أركان الإيمان السِّتَّة الَّتي يدلُّ عليها قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ