كتاب منير، ألا ترى أنَّ يُوسُفَ ـ - عليه السلام - ـ قال للفتيين: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١)} وأنَّ الله قال على لسان الملك: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ... (٤٣)} وعلى لسان الفتى، قال: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ ... (٤٦)}
يُوسُفُ يأخذ بالأسباب
ولمَّا أراد السَّاقي الخُروجَ من السِّجن، لم يهمل يُوسُفُ الأخْذَ بالأسباب، ولم يتهافت على ذلك السَّاقي بالرَّجاء والاسترحام، إنَّما {وَقَالَ ... لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ... نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} طَلَبَ منه وأوصاهُ أنْ يذكُرَه عند الملك، ويخبرَه عن أمره، ويذكِّره به؛ لعلَّه يخلِّصه ممَّا ظلم به.
لكنَّ السَّاقي الَّذي خَرَجَ فعلاً من السِّجن لم يعملْ بالوصيَّة ولم يحفظ الأمانةَ، فما أن عَادَ إلى قَصْر سيِّده حتى أنساهُ الشَّيطانُ في غمرةِ الفرحِ والسُّرور أمْرَ يُوسُفَ وما تكلَّم به معه، {فَأَنْسَاهُ ... الشَّيْطَانُ ... ذِكْرَ ... رَبِّهِ ... فَلَبِثَ ... فِي ... السِّجْنِ ... بِضْعَ ... سِنِينَ (٤٢)}.
فعلى هذا النِّسيان لبث يُوسُفُ في السِّجن بضع (١) سنين، وعلى أيِّ حال فيُوسُفُ توكَّل على الله تعالى، وأخذ بالأسباب، والزِّيادة في البلاء هذه لا نراها إلَّا زيادة في الأجر والثَّواب، وكانت هذه الحادثةُ خاتمةَ فصول مأساة يُوسُفَ المحزنة.
فإن قيل: فكيف يقول: {قُضِيَ الْأَمْرُ} وانتهى، ثمَّ يقول:{ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ} فكيف يظنُّ نجاته ظنّاً، وهو يعلم أنَّ أمر الله قد قضي؟! والجواب أنَّ {ظَنَّ} هنا بمعنى أيقن وعلم، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)} [البقرة] ونظائره.
(١) البِضْع: العدد ما بين الثَّلاثة إِلى ما دون العشرة.