ولمَّا تقرَّر أخذُ أخيهم بمقتضى فتواهم، رأى إخوة يوسف عندئذٍ أنفسَهم في مأزقٍ حرجٍ، لا بدَّ لهم فيه من الاستعطاف والاسترحام للخروج منه.
{قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} وهو يعقوب ـ - عليه السلام - ـ لا يقوى على فراقه، وقولهم:{شَيْخًا كَبِيرًا} فيه إطناب للاستعطاف {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي نتقدَّم إليك ملتمسين أن تأخذ واحداً منَّا بدلاً عنه، فلسنا عنده بمنزلته من المحبَّة، فأطلقه لأجل خاطر الشَّيخ الكبير ورحمةً به {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)} فأتمم إحسانَك علينا، ولا تردَّ سؤالنا! وتذكيره بإحسانه؛ لعلَّه يلين.
وكأنِّي بيُوسُفَ يتصوَّر قُرْبَ انجلاءِ الحقيقة وقربَ تحقُّق رؤياه بمجيء أبيه وأهله جميعاً إليه وسجودهم له، فلم تَلِنْ له قناةٌ:
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} أي نعوذُ بالله تعالى أن نأخُذَ أحداً بجرم الآخر، فليس من العدل ولا الإحسان تركُ الجاني وأخذ البريء، فما هذه الشَّفاعة؟! فلن {نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} كما قلتُم وأفتيتم وحكمتم، وإنْ أطعناكم فيما تطلبون {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩)}.
ومع أنَّه لم يقبل شفاعتهم، نراه لم يؤنِّبْهم بأنَّ هذا خلاف فتواكم، ومخالفة لشريعة الله تعالى، و {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣)} [الصَّف]، وإنَّما ردَّهم ردّاً حسناً.
وتجدرُ الإِشارة إلى أنَّه لم يَقُلْ: معاذ الله أنْ نأخُذَ إلَّا مَن سرق؛ تفادياً للكذب، فهو يعلم أنَّ أخاه ليس بسارق.