وأعرض عن (والله) و (بالله) الأشهر استعمالاً، وجاء بأغرب الأفعال النّاسخة الّتي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار {تَفْتَأُ} وفيه إيجاز بالحذف، فأصله (لا تفتأ)، وحُذِفَ حرف النَّفي في جواب القسم لأنّ موضعه معلوم، وحُذِفَ للتَّخفيف وعدم الإلباس، إذ لو كان الجواب إثباتاً للزم جواب القسم اللّام والنُّون، ولقيل: لتفتأنّ، نحو قوله تعالى: {بَلَى ... وَرَبِّي ... لَتُبْعَثُنَّ ... (٧)} [التّغابن]
ثمَّ جاء بأغرب ألفاظ الهلاك {حَرَضًا} وكلّ ذلك رعاية بحسن الجوار والمناسبة، وعناية بائتلاف اللَّفظ الغريب بمثله. من بديع القرآن الانسجام
الانسجام: أن يأتي الكلام متحدِّراً كتحدِّر الماء المنسجم، بسهولة لفظٍ، ورقَّة معنى، وحسن تأليف، حتَّى يكون له في القلوب تأثير، وفي النُّفوس موقعٌ أثير. ويقوى الانسجام ويصفو إذا جاء موزوناً من غير أن يُقصَد إليه، ومن الانسجام في القرآن قوله تعالى حكاية عن يعقوب - عليه السلام -: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦)}.
فمن سمع هذه الآية بقلبه وجد سهولةَ لفظ، وعذوبةَ معنى، وحسنَ تعطُّف ظاهر في قوله:{إِلَى اللَّهِ} وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} فلم يقل: (وأعلم منه) مع أنَّه أوجز في اللَّفظ؛ ليأتي في الكلام زيادةُ تعطُّف وترقُّق واسترحام وخضوع يزيد الكلام حُسْناً يحلو في النُّفوس ويعذب.
وقد جاء مع الانسجام بديع غير مقصود، وهو طباق السَّلب في قوله:{وَأَعْلَمُ} وقوله: {لَا تَعْلَمُونَ}.
ومن الانسجام قولُه في الآية الَّتي بعدها حكاية عن يعقوب: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ