للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المعنى، فهو يثير السَّامع لمعرفة معنى اللَّفظين المتقاربين في النُّطق المختلفين في المعنى.

وإنَّما أَسِفَ يَعْقُوبُ على يُوسُفَ، مع أنَّ المقام يستدعي أن يتأسَّف على أخيه؛ لأنَّ الحزن الجديد يُذَكِّر بالحزن القديم، كما قيل: "وإنَّ الأسى يبعث الأسى"، والشجا يُحيي الشَّجا، زد على ذلك أنَّ ليُوسُفَ في قلب يعقوب هوىً لاعِجاً.

ولا زال يعقوب ـ - عليه السلام - ـ يكْظم حُزْنَهُ وألمه، ويتجلَّدُ حتَّى ابيضَّت عيناه من الحُزْن، قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)} فقد بصره من شدَّة الحزن والحُرْقة واللَّوعة، وقيل: ضَعُفَ بَصَرُه حتَّى كاد لا يرى.

وما لَبِثَ ـ - عليه السلام - ـ مدَّة إلَّا وجاءَه أولاده، {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} وهي كلمة نصح وإشفاق عليه، يمازجها اللَّوم والتَّعجُّب، أي: والله لا تزال تذكرُ يُوسُفَ وتتفجَّعُ عليه، ولا تنفكُّ تضْرِبُ على هذا الوتر الحزين، {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} مشفياً على الهلاك مرضاً، وحتّى يذيبك الهمُّ {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥)} بالموت أسىً وحسرةً؛ فإنَّ ذلك عاقبة الأسف والحُزْن.

{قَالَ} يعقوب ـ - عليه السلام - ـ ردّاً عليهم: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي (١)} همِّي العظيم {وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} تعالى وحدَه، أي: لا أشكو إليكُم أو لغيرِكم مِن الخَلق، إنَّما أشكو إلى الخالق داعياً له وملتجئاً إليه، وما عليَّ إنْ أنا بثثتُ همِّي لخالقي؟! إنَّ الشكوى إليه تعالى من جنى الإِيمان:

لا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً ... وسَلِ الَّذي أَبوابُهُ لا تُحْجَبُ

اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤالَهُ ... وبُنَيُّ آدَمَ حينَ يُسأَلُ يَغْضَبُ

ويختمُ يعقوبُ ـ - عليه السلام - ـ جوابَه لأولاده بقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا


(١) البثُّ: أصعب الهمِّ الَّذي لا يُصبَرُ عليه حتَّى يُبَثَّ ويُنشَر إلى الغير.

<<  <   >  >>